أيها المباركون
قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، إن الأسرة هي نواة المجتمع ولَبِنته الأولى، فإذا كانت الأسرة المكونة من الزوج والزوجة والأبناء قائمةً على المنهج السليم، والنهج القويم، أثَّر ذلك – ولا بد – على صلاح المجتمع بأسرِه، ومن أجل ذلك جاءت عناية الإسلام بالأسرة واهتمامه بها، ووضع الأسس السليمة التي تقوم عليها الأسرة السعيدة، وحماها مما يعصف بها من مخاطر، وسد جميع الثغرات التي من شأنها أن تُهدِّد كِيانها، وتهدم بنيانها، وتقوِّض أركانها، ومن تلك الأسس السليمة اختيار الزوجة الصالحة، وتربية الأبناء على معاني الإسلام، ومعرفة كل من الزوجين ما له من الحقوق الشرعية على الآخر، وتقويم الأخطاء بالحِكمة والعقل، وإقامة العلاقة الزوجية على أساس روح التفاهم والتعاون والتكافُل، ويتمثل ذلك في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجِها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته)).
إن من حقوق الزوج على زوجته وراعية بيته ورفيقة العمر: الطاعةَ بالمعروف؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبَتْ فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح))، وفي الصحيح: ((إذا طلب الرجل المرأة إلى فراشه فأبت عليه كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى تُصبح))، وقد عظم الإسلام حق الرجل على زوجته لما له من الدور في بناء عشِّ الزوجية، وتربية الذرية، والسعي في تحصيل أسباب الرزق في البرية، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هُريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)).
إن الإسلام سما بالمرأة فجعل لها على الرجل الحقوق أيضًا مثلما جعل للرجل عليها؛ حفظًا للتوازن، وبُعدًا عن الفوضى، وإقامة لقانون العدل، ومن حقوق الزوجة الصالحة على زوجها وقرَّة عينها أن يُعاشرها بالمعروف، وأن يحافظَ عليها كما يُحافظ على جوهرة ثمينة، ولؤلؤة نفيسة، وأن يُنفِق عليها ويتولى شؤونها، ويُغنيها عن أعباء طلب الرزق والإنفاق شرط أن تقرَّ في بيتها، وتلزم مسكنها من أجلِ أن تتفرَّغ لتربية الأبناء وتنشئتهم على الدين والإيمان، ومن أجل ذلك جاءت وصية رسول الله في أعظم موقف عرفه التاريخ، في “حجة الوداع”، فقال سيد البشرية وهو يوصيهم بوصايا نافعة، وحِكَم بليغة، وجُمَل مؤثِّرة: ((ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هنَّ عوان عندكم، ليس تَملكون منهنَّ شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلْنَ فاهجروهُنَّ في المضاجع واضربوهن ضربًا غير مبرِّح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، ألا إنَّ لكم على نسائكم حقًّا ولنسائكم عليكم حقًّا؛ فأما حقكم على نسائكم: فلا يوطئن فرشكم مَن تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرَهون، ألا وحقهنَّ عليكم: أن تُحسنوا إليهنَّ في كسوتهنَّ وطعامِهنَّ)).
أخواني وأخواتي الأفاضل والفضليات
إذا أرادت الأسرة المسلمة أن تدوم وتستقرَّ، ويسودَ بين أفرادها المحبة والوئام، وأن تقوى على العلاقة الزوجية على مرِّ السنين والأعوام، فعلى رب الأسرة أن يتعامل بالحكمة، والعقل والرحمة، وأن يغض الطرف عما يراه من هفوات وأخطاء، وألا يُسارع إلى الطلاق والنزاع والخصام لأتفَهِ الأسباب، وأصغر الأمور، وأن يدرك أن المرأة خُلقت رقيقة المشاعر، سريعة التأثُّر، يغلب عليها جانب العاطفة، وأنه مهما بلغت من رجحان العقل، فلا بدَّ من الوقوع في الخطأ والزلل، وفي ذلك يقدم لنا سيد العقلاء نصيحة ثمينة إذا عمل بها الزوج دامت العشرة الزوجية على المحبة، والود والرحمة وامتدت تلك السعادة والألفة والمحبة إلى ما بعد الموت؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يفرك مؤمن مؤمنةً إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))؛ رواه مسلم.
لقد عظَّم الإسلام من شأن الطلاق، وحث على عدم الفراق، وحذر منه وإن كان حلالاً، وبيَّن ما يترتب عليه من مخاطر، وما يؤدي إلى تدمير الأسر وكسْر الخواطر، بل يؤدي إلى تفكيك المجتمعات، وتشريد الأولاد، وفساد العلاقات، وبيَّن أنه مما يَفرح له الشيطان، ويسعى إليه طول الزمان، وأن من يفسد العلاقة من أَتباعِه بين الزوجين يَمنحه الجائزة والمقربة والحفاوة؛ جاء في الحديث الذى رواه الإِمام مسلم قال: ((إنَّ الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلةً أعظمهم عنده فتنةً، يَجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئًا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقتُ بينَه وبين أهله، قال: فيقربه ويُدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت))؛ رواه مسلم.
أيها المباركون
اعلموا أن الزوجة خُلقت رقيقة المشاعر، سريعة الدمعة والتأثُّر، وقد تقع في الأخطاء المُنفِّرة فتغير شيئًا من عواطف الألفة، فيسوء التفاهم وتختلُّ الحياة، ويظهر النشوز وعصيان الزوج، فعلى الزوج أن يتبع الخطوات الصحيحة الحكيمة في التعامل مع كريمته، وقد أرشدنا القرآن إلى تلك الخطوات عند النشوز والعصيان قبل الندم والخذلان، فقال تعالى في محكم التنزيل: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34].
فيَنظر الزوج إن كان السبب مِن قِبَلها قام الزوج بعلاجه بحكمة، ونصَحَها بلينٍ مُتغاضيًا عن سيئاتها، وهفواتها وأخطائها، مذلِّلاً للصعاب أمامها، رغبةً في المعيشة السعيدة، والحياة الرغيدة، ودوام العشرة الحميدة، وإن كان السبب من الزوج عملتْ هي على كسب ودِّه، وجلْب عطفه، وتليين قلبِه؛ مثل التنازل عن الرغبات المطلوبة، والرضا بما يُريد ويرغب، والاعتذار وطلب العفو والسماحة، بعيدًا عن التعنُّت والجفوة، وتجنُّب ما يُكدِّر صفو العلاقة، ويقطع أواصر المحبة والرقة والحلاوة، تأمَّلوا معي معاملة الصحابي الجليل ورجاحة عقله في معالجة الأخطاء، وتقبُّل زوجته لنُصحه وإرشاده، وسمعها وإصغاءها لكلامه، دون تحميل الخطأ لجانب على حساب الآخر، قال أبو الدرداء رضي الله عنه لزوجته: إذا رأيتِني غضبْتُ فرضِّني، وإذا رأيتكِ غضبت رضَّيتك، وإلا لم نصطحِب.
إن مِن أسباب المشاكل الزوجية، والخلافات العائلية، والنزاعات الأسرية، ووقوع النفرة بين أفراد الأسرة الإسلامية: أن يهجر الرجل بيته، ويسهر مع زملائه وأصدقائه، ويستأنس بِمجالستهم والسمر معهم، ولكن إذا دخل أسوارَ البيت، وطرق الباب فكأنه يُنذِر بقدوم بلاء أو مصيبة، فتغيب الابتسامة عن وجهه، ويحلُّ محلَّها الاكتئاب والسآمة، وإذا جلس قعد وحده، وإن أكل فبمفرده، وإذا تحدَّث تكلم قليلاً، وصمت طويلاً، مما يدخل الوحشة في قلب زوجته وأولادِه، ويُدخل على قلوبهم وسوسة الشيطان، وتأملوا معي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله – عز وجل – إلا أُجرتَ بها، حتى ما تجعل في فم امرأتك))، تجد في ثنايا الحديث وضمن سُطورِه الحث على مراعاة الزوج لزوجته، وإدخال الأنس لقَلبِها، والسرور لنفسها، والبهجة لرُوحها، وأن يجتمعا على سفرة واحدة، يتبادلان الحديث ويتجاذَبان الحوار، فيسود بينهما حينئذ سعادة لا يَشوبُها شقاء، وهناء لا يُخالطُه عناء، وبهجة بعدها سرّاء.
إنَّ خير البيوت ما عُمر بحسن العشرة والمحبة والألفة، وعن طريق مراعاة كل من الزوجين حق صاحبه، وإن حسن العشرة سبب السرور والرحمة، وراحة البال والصحة، والهناء والفرحة، وهو سبب الاقتصاد في المعيشة عن طريق التعاون على البر، بل فيه نبات الذرية الصالحة، بل فيه السعادة للمُجتمَع بأسرِه، وما أجمل ان يصطحب الزوج أهله في زيارة الأقارب أو الذَّهاب إلى بيوت الله لسماع العِظَة والمَوعِظة، أو الخروج للاستجمام المباح ليُبعد شبح الملَل، ويُلطِّف الجو ليدب المرح والحياة في جسد الأسرة، فتستعين على مواصلة عجلة الحياة بروح مؤمنة، ونفس صادقة، وحياة سعيدة.
فاحرصوا – معاشر الأخوة والأخوات – على معاملة زوجاتكم وأولادكم بالحسن والمعروف، وأرشدوهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم في جميع الظروف، وتحدَّثوا معهم، وناقِشوا أمور معاشِكم، وعلِّموهم أمور دينهم وكتاب ربهم وسنة نبيكم، وبصِّروهم بما يدور حولهم من تغيّرات، وأمدُّوهم بأسباب القوة والثبات، واعمروا بيوتكم بحضوركم وآنسوا أهليكم وأولادكم بحديثكم، واملؤوا عيونهم بلطيف حديثكم وحلوِ ألفاظكم، تفوزوا بسعادة الدنيا والدين