بسم الله ، وبعد :
ما أروع السعادة الأسرية المتبادلة بين كافة أفرادها ..
وما أجمل سنوات الطفولة الناعمة البريئة التي غرست في القلوب وداً وسلاماً ووئام ..
إن الحياة تكبر وتشيخ كما يشيخ الإنسان ، فلا الطفل يبقى طفلاً كما هو ، ولا الشاب يبقى شاباً كما هو .. هكذا تستمر الحياة فمن كبر منّا انتهى دوره في الحياة ، وانتقل الى عالم غير عالمنا ثم يرث الصغير طبائع الكبير وعاداته مع إضافة تغير لمستجدات الحياة العصرية .
وإن الإنسان بطبعه يتغير ويتطور بشكل سريع .. وفيه ما هو حسن جميل ، وفيه ما هو مذموم قبيح ، فالحياة مثل السلة كل يأخذ منها على شاكلته ، والعاقل من يتقن التمييز .
وإن هذا التقدم المعرفي والتدفق المعلوماتي الذي اصبح الوصول إليه سريعاً ، والذي أشغل الصغير والكبير ، وانغمس فيه العالم والمتعالم والجاهل ، تسبب في انقطاع أو ضعف العلاقات الإنسانية بصورتها الجميلة ، وكذلك العلاقات الاجتماعية بين أفراد العائلة مما قلص روابطها وفكّك أواصرها ، فبدلاً من زيادة اللحمة الأسرية أصبحت الأسرة تبحث عمّن يلحّمها .
نعم إنه الواقع .. لأن الكل قد انشغل بنفسه عن الآخر ، وأصبح الكثير لا يتقبل من الآخر ، فلا تناصح يقبل ، ولا تشاور يقصد ، وأصبح الصغار يرون أنفسهم أوعى وأعلم من الكبار .
يا بني اقترب من حضن والدك !!!
فالأبناء بسبب انهماكهم في مواقع التواصل الاجتماعي ، وتلقى المعرفة من خلالها ، والتنقل بين صفحاتها من هنا وهناك ، ومن كل من هبّ ودبّ ، أصبحوا يظنون بأنهم أكثر فهماً وإدراكاً من آباءهم .
إن هؤلاء الأبناء السطحيون الذين لم يشتد عودهم بعد ، والذين ينتقصون الآباء صراحة أو كناية ، هم بحاجة ماسة الى كبير في حياتهم يلجئون إليه بعد الله ، يكون ذا فهم ووعي وخبرة ، قد عاصر أجيالاً وتعلم من المواقف دروساً ألهمته القوة المعرفية ، والشجاعة الأدبية ، وصقلت أخلاقه ، وأكسبته الخبرة الناضجة الثاقبة .
فهل يا بني ستجد في هذه الحياة من هو أرشد وأنصح وأحب وأرحم وأخوف عليك من والدك ؟
لا تنتظر النصيحة في آخر لحظاته عند الموت ويكون التأثر بها لحظياً ، وإنما أستفد من التوجيهات والإرشادات المستمرة مدى الحياة وإن كثرت على مسمعك .
وتأملها بعمق ، ودقق فيما ترمي إليه تلك الرسائل المستمرة المضيئة لك من بين السطور ، وأمعن النظر مرة بعد مرة ، متسائلاً بتأمل مع نفسك لماذا بعض العبارات والحكم يكررها أبي عليّ مرات ومرات ؟ ومع التأمل ستجد الجواب !!!
يا بني اقترب من حضن والدك !!!
إن الآباء الذين قاسوا ألم الحياة وعانوا ذلّها وتحمّلوا الكثير لكي تصل أسرتهم الى بر الأمان ، ويعيش أبناءهم في أمن وأمان ، وخاضوا غمار الحياة يتدرجون في تعلمهم ، ويتنوعون في علاقاتهم ، ليزدادوا علماً وفهماً ويتعلموا من تجارب الآخرين ..
فتجارب الحياة مدرسة تخرّج منها الآباء مكتسبين خبرات عالية ، ونظر ثاقب ، ووعي تام لحياتهم ، فهم الذي فهموا ما يريدون ؟ ومتي يريدون ؟ وكيف يريدون ؟ وممن يريدون ؟
بخلاف الأبناء السطحيون الذين ينغمسون في ملاذهم ويعيشون لحظاتهم دون حساب لعواقبهم ، فتتكالب عليهم الأزمات بسبب ظنّهم أنهم قد نضجوا وعرفوا وليسوا في حاجة الى مشورة ونصح من أحد حتى آبائهم .
وكما جاء في الحديث : [ ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار ، ولا عال من اقتصد ] (الألباني ضعيف الجامع 5056 ) ، وإن كان الحديث ضعيفاً سنداً إلا أن معناه صحيح .
والعاقل من يضيف الى عقله عقول غيره ليستنير بها ، وليس من يرفضها ، أو يستكبر عليها أو يتجاهلها مستحقراً نفعها .
إضافة الى أن والدك يهمه أمرك ويسعده رفعة شأنك وتحقق نجاحاتك ، وكما كان في طفولتك يترقب نموك الجسدي المتصاعد ويعيشها لحظة بلحظة وهو في فرح وسرور وهو ينتقي الملابس الجميلة مع والدتك ، ويحتفل بنجاحك المدرسي من سنة الى أخرى ، فكذلك هو يريد راحتك اليوم وغداً حتى ولو كنت بعيداً عنه جسدياً منشغلاً أو متشاغلاً عنه ، فأنت قريب منه إحساساً وعطفاً ودعاءاً .
يا بني اقترب من حضن والدك !!!
إذا ألمّت بك الخطوب وحلت بك الصعاب فمن يحزن لحزنك ويتألم لألمك إلا والديك .. فمشورته على خطوات حياتك ليس نقص في عقل ، وليس ذماً أو اتهاماً في قصور فهمك ، لكنه الخير الذي سينزل عليك ببركة في حياتك ، ودعوات تلاحقك ليلاً نهاراً وفي حضورك وغيابك ، ومع دعم المشورة وزيادة أفق النصيحة والنظر من كل اتجاه ، يأتي إضافة الى ذلك رضى رب العالمين عنك لراحته وارتباط رضى الله برضاه ، قال ربنا تبارك وتعالى : ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ ( الإسراء 23 ) ، وجاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رضى الرب في رضى الوالد , وسخط الرب في سخط الوالد ) (حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 516 ) .
فهل بعد هذا تترك مأوى أمانك ، وحضن رعايتك ، وتذهب خلف الترهات من الأقاويل والأكاذيب التي تشتت عقلك وتفسد فهمك وتوقعك في مهلكة الشبهات والشهوات ، فتضل في غياهب الحياة .
يا بني اقترب من حضن والدك !!!
أسأل الله أن يلهمك الرشاد ، ويوفقك لحسن البر ، وحسن العمل ، وأن يحليك بزينة الأخلاق.
**********************
بقلم أ. وليد بن علي خزام