السبت 23 نوفمبر 2024 / 21-جمادى الأولى-1446

كيف نستثمر في أبنائنا؟



 

 

د. علاء جواد خبير الإستثمار في البشر يجيب عن السؤال الصعب:

  ما هو الأفضل للأبناء.. أن نترك لهم رصيداً في البنوك.. أم نترك لهم عقارات نمنحها لهم ليبدؤوا بها حياتهم.. أم نترك لهم شركات ومؤسسات تقيهم شر الزمن.. أم ننفق قيمة كل ذلك على تعليمهم وتأهيلهم.. أم نحاول أن نفعل كل ذلك معاً؟!

إنّه السؤال الصعب الذي يواجه الآباء، فالأسرة هي السوق الإستثماري الذي يبدأ فيه إستثمار الأموال في البناء، وهي المصنع الحقيقي الذي ينتج البشر، فحين يبني الإنسان نفسه جيِّداً، فهو يبني أباً جيِّداً لأبنائه، وحين يختار زوجة صالحة فهو يختار أُماً قادرة على تربية أبنائه، باختصار فإنّ الإنسان يبني مشروع حياته الذي سوف يستثمر فيه أبناءه.

مصطلح الإستثمار في الموارد البشرية والبشر هو مصطلح جديد يضع معايير لهذه القضية المعقدة، حتى داخل كل أسرة، ولنتعرف أكثر إلى هذا الإتجاه العالمي الجديد، في هذا الموضوع حوار مع خبير الجودة والإستثمار في البشر والموارد البشرية د. علاء جراد.

في البداية يقول د. جراد إنّه لابدّ من التطرق إلى مفهوم الإستثمار البشري فهو مصطلح جديد بدأ يظهر في علم الإدارة مؤخراً، وأصبحت هناك مواصفات عالمية خاصة بالإستثمار البشري، فقد بدأ علم الإدارة يخاطب إهتمامات الأشخاص وهواياتهم وطموحاتهم، ماذا يحبون وماذا يكرهون، فالإنسان كل متكامل بما يملكه من أفكار ومشاعر وأحاسيس، وليس كما ينظر إليه البعض على أنّه زوج من الأيدي والأرجل.

لذلك فإن الإستثمار في الموارد البشرية هو إستثمار بالأموال ولكن ليس بضخ النقود فقط، وإنّما من حيث الوقت وإعطاء فرصة للتعلّم، فمن حق الفرد أن يخطئ ويناقش خطأه في سبيل تقويم سلوكه، وهذا نوع من الإستثمار غير المباشر، في حين يكون الإستثمار المباشر من خلال التدريب والتأهيل.

– الإستثمار في التعليم:

* ماذا عن حيرة الآباء فيما يجب أن يفعلوه للأبناء، هل يمنحونهم المال أم الميراث أم المشروعات أم العقارات؟

– يُجمع الكثير من العلماء والباحثين على أن أفضل أنواع الإستثمار في الأبناء، هو الإستثمار في التعليم، فالإنسان هو المحور الأساسي للإبداع والإختراع لذلك فهو أهم قيم الحياة. ويخطئ بعض الآباء في إعتقادهم أن استثمار الأبناء في التعليم يعني إختيار مدرسة أو جامعة نموذجية ودفع مبلغ معيّن من النقود فقط، دون الإهتمام بجوانب وتفاصيل حياة الأبناء الأخرى، وهذه نظرة قاصرة لأنّها تغطي جانباً واحداً وهو تعليم المناهج الدراسية، في حين أنّ هناك جوانب أكثر أهمية، وهي أن نستثمر أبناءنا نفسياً وجسدياً وفكرياً ومعنوياً ليشمل هذا الإستثمار كافة جوانب الحياة، ولكن بلا أدنى شك أنّ التعليم الجيِّد هو أفضل طرق الإستثمار، ولكنه ليس الطريقة الوحيدة، فليس هناك معنى لشخص تعلم جيِّداً بينما شخصيته لا تصلح لمواجهة الحياة ومصاعبها.

– تنمية الهوايات:

* ولكن البعض يعتقد أنّ الهوايات مضيعة للوقت..؟

هذا حقيقي وينظر بعض الآباء بالفعل إلى هوايات أبنائهم وميلوهم على أنها ترف ويقفون حجر عثرة أمام تنميتها، وقد يعتقدون أن هوايات كالموسيقى أو الرياضة أو الرسم تهدر وقت الأبناء وتصرفهم عن دراستهم وعن بناء مستقبلهم، وعلى خلاف هذا الفهم الخاطئ فإن تنمية ميول الأبناء أحد أهم السبل لتعليمهم وتطوير طرق تفكيرهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، فعلى سبيل المثال، أكّدت دراسة حديثة أن تعلم الموسيقى ينمي ملكات التفكير، فحجم الخلايا الذهنية في أثناء تعلم العزف يزداد. ويجب علينا أن نكون آباء متعلمين منفتحين مع الحفاظ على ما يصلح من عاداتنا وتقاليدنا، كذلك يجب علينا في بعض الحالات التدخل لتوجيه ميول أبنائنا بما يصب في مصلحتهم، فنحن وبحكم تجاربنا بالحياة قد نكون أكثر إدراكاً وفهماً للحياة.

– التفكير الناقد:

* في إطار التعليم الجيِّد، يجبر البعض الأبناء على إختيار تخصص معيّن باعتباره يقدم أفضل الفرص المادية بعد التخرج، فكيف ترى ذلك..؟

هذه الإشكالية التي تحصل دائماً بيننا وبين أبنائنا حول ما نريده نحن، وما يريدونه، هي واقع شئنا أم أبينا، ولكن يجب أن ننتبه إلى أنّ هناك معطيات متوافرة في البيئة المحيطة بأبنائنا، توفر لهم فرصة لتكوين تفكيرهم الناقد الذي يعطيهم مفاتيح الحل لمشكلات الحياة وصعوباتها، فإذا استطعنا أن ننمي هذا التفكير لديهم، لا يهم أي المجالات سوف يدرسون، لأنّهم سيكونون قادرين على تطويع هذه الدراسة لتخدم حياتهم العملية من خلال إبتكارات جديدة تساهم في تطوير حياتهم وتنعكس إيجاباً على بناء المجتمع، فتعليم مهارة حل المشكلات والتعامل مع التغيير الحاصل في المجتمع أهم من مجال الدراسة نفسه، فالدراسة هي جواز سفر الشخص وليس من الضروري التقيد بها، وإنما هناك فرصة للإبداع والتطوير.

– وقت لأبنائك:

هل يقتصر الإستثمار في الأبناء على ترك حرِّية الإختيار لهم وتقديم فرص تعليم جيِّدة..؟

الإستثمار في الأبناء ليس بالمال فقط، وليس بتقديم الفرص، بل يجب أن نستثمر جزءاً من وقتناً أيضاً من أجل الأبناء، وهناك جزء من عملنا في تنمية الموارد البشرية هو المساهمة المجتمعية، وأحد أهم هذا الجوانب هو تطبيق مفاهيم الإدارة على الأسرة، وفي هذا المجال أود التطرق إلى مفهوم في الإدارة يسمى “التغذية الراجعة” والذي يعني معرفة مدى رضى العملاء عن الخدمات المقدمة، وهذا المفهوم يمكن تطبيقه على أبنائنا، فبإمكانك تخصيص ساعة في الشهر لكل إبن من أبنائك، تخرج معه منفرداً، وتستمع له، تتعرف إلى مشكلاته وهمومه، وتعطيه جزءاً من خبراتك التي تصلح لزمانه وتتوافق معه، وبنفس الوقت تحصل منه على التغذية الراجعة الخاصة بإدارة شؤون الأسرة، أين أخطأت وأين أصبت، فأنت بذلك تشعره بأهميته بالنسبة إليك، وتعلمه طرق جديدة للتواصل مع ذاته ومع الآخرين، فالأسرة مشروع إستثماري يحتاج إلى الإدارة، خاصة إذا علمنا أن نسب الطلاق قد تجاوزت 30% في بعض الدول العربية.

– قبل فوات الأوان:

ويضيف د. علاء جراد أنّ هناك تباعداً حدث بين أفراد الأسرة العربية فرضته ظروف الحياة وتسارع عجلة الزمن، إلا أنّ هذا ليس مبرراً لعدم إعطاء الوقت الكافي لحياتنا الأسرية، فقد نستيقظ بعد فوات الأوان، وهنا اسمحوا لي أن أعود إلى مثال نطبقه على المتدربين في علم الإدارة وهو ينطبق على حياتنا العملية والأسرية “خلال التدريب نعرض لقطة مدتها 30 ثانية، يؤديها أشخاص يلعبون بالكرة، وفي أثناء هذه اللقطة يمر شخص يرتدي لباس “غوريلا”، يطلب من المتدربين إحصاء عدد المرات التي لمست فيها الكرة الأرض، وعدد المرات التي التقطها اللاعبون”.

بعد إنتهاء اللقطة أسأل المتدربين، هل من شيء غريب حدث في أثناء اللعب؟ والمفاجئ أنّ واحداً أو اثنين من بين ثلاثين متدرباً، ينتبهون إلى مرور الغوريلا، في حين أنّ البقية وعلى الرغم من عدم صحة إجابتهم عن العدد، فإنّهم لا يلحظون مرور أي شيء. بالضبط هذا ما قد يحدث مع أبنائنا، فقد تمر كارثة أو مصيبة كبيرة ونحن منشغلون بتفاصيل صغيرة ولا ندركها إلا بعد فوات الأوان، لذلك يجب أن نكون على تواصل وعلم دائمين بكل التفاصيل التي تحيط بنا.

– قالب الحلوى:

* وكيف نتغلب على ذلك؟

حتى نستثمر وقتنا بالشكل الأمثل، يجب أن نرتب أولويات حياتنا حسب أهميتها، فالوقت أثمن شيء بالوجود، وبهذا الخصوص يقول أبو الإدارة الحديثة “بيتر دراكر” إنّ الشخص الناجح يبدأ يومه ليس بما يجب عليه فعله وإنما ما هو الوقت المتاح له للفعل، ويشبه دراكر الوقت بقالب الحلوى، الذي يسعى كل شخص للحصول على قطعة منه، فهذا يريد منك الرد على البريد الإلكتروني وذاك يريد منك حضور إجتماع أو تقديم خدمات، وأنت من واجبك توزيع هذا القالب حسب أهمية الأشياء. وهذا التنظيم سوف يتيح لك الفرصة لإعطاء الأهمية لكل جوانب حياتك على حد سواء، إبتداء من العمل ومروراً بالأسرة وإنتهاءً بالتواصل الإجتماعي.

يجب الإصرار على أن يكون يوم الإجازة مقدساً في حياتنا الأسرية، مهما بلغت إغراءات العمل، فهو فرصة لقضاء أوقات ممتعة مع أفراد العائلة وزيارة أماكن للترفيه، وليس بالضرورة رصد ميزانية كبيرة، فأي مكان يكسر الروتين المعتاد يفي بالغرض، بشرط التنويع والتغيير.

– الدكتاتورية مطلوبة:

* عندما تتعارض الرغبات، كيف يمكن إتّخاذ القرار في هذه الحالة، وهل الديمقراطية هي الأفضل..؟

يقع على عاتق الآباء أحياناً وضع قواعد عامة لسلوك الأبناء وشرح هذه القواعد ودواعيها التي تخدم مصلحة الأبناء، وعلى الرغم من أهمية الإقناع في الحوار بين الآباء وأبنائهم، فإنّ الدكتاتورية قد تكون مطلوبة في بعض الحالات، فالتعرض للتلفاز يجب أن يكون مقنناً، وأوقات الفراغ يجب ملؤها بما هو نافع كتنمية الهوايات، كذلك يتوجب علينا الجلوس مع أبنائنا وتصفح مواقع الإنترنت التي يحبونها وتوجيههم لمواقع مفيدة وتساهم في تكوينهم المعرفي، وعلينا ألا ننسى أبداً أن أبناءنا يحتاجون إلى مساحة خاصة بهم يقضونها مع أقرانهم، وينمون مهاراتهم في التواصل الإجتماعي.

– إستثمار طويل المدى:

ويختم الخبير علاء جراد حديثه بالعودة إلى نقطة البداية، فالأسرة هي المكان الأوّل لإستثمار البشر، وقد لا تتوافر لديها الإمكانيات المادية، ولكن يجب أن نتذكر قولاً مفاده: إذا امتلكت الإدارة سوف تجد الطريق للوصول. فهناك أمثلة كثيرة لأشخاص تجاوزوا خط الفقر إلى الإبداع، حققوا ذاتهم بالإصرار والعزيمة، إنّ الإستثمار بالأسرة والأبناء هو إستثمار معنوي طويل المدى وهو استثمار مادي أيضاً، لذلك يجب علينا زيادة الوعي من أجل الإهتمام بهذا الجانب من خلال وسائل الإعلام ومن خلال الدعوة لإعداد مناهج متكاملة تهدف إلى الإستثمار في الإنسان، فالدراسات العربية قليلة في هذا المجال وإن وجدت فهي غير منشورة، لأننا وللأسف نعتبر البحث العلمي نوعاً من الرفاهية.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم