الأحد 24 نوفمبر 2024 / 22-جمادى الأولى-1446

افعل الخير



إذا عوَّدتَ نفسك ألَّا تفعل خيرًا إلا لمدْحِ الناس لك وثنائهم عليك، فستظل تستجدي التصفيق والدعم منهم أبدَ الدهر، فقد صار عندها مدحُهم هو الوقود المحرك لفعلك وتركك، ولم تُبقِ لنفسك شيئًا لكي يجازيَك الله به ويكافئك عليه، فقد آثرتَ أن تأخذ ثوابك منهم، ((فعلتَ ليُقال: هو جوَادٌ، فقد قيل))؛ [رواه مسلم].

إن انتظار الشكر من الناس يحرمك الإخلاص، لا أقول: افعل الخير بلا مقابل، بل افعل الخير وانتظر من الله الثواب والأجر؛ فمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ليست قاعدة تِجارية مبنية على مصالحَ شخصية، بل أهداف الخيِّرين وطموحاتهم أرقى من هذا وأسمى؛ فهم ﴿ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29].

تصدَّق على مسكين، امسح رأس يتيم، أمِطِ الأذى عن الطريق، وتفقَّد أحوال الصديق، أصلِحْ بين المتخاصمين وفرِّج همَّ المكروبين، وأعطِ أملًا للمقهورين اليائسين، وربِّتْ على كتِف البائسين المعذَّبين؛ فلن يكلفك هذا كثيرًا، فقط نية طيبة تصلح ما أفسدته حوادث الأيام، وتقلب كل موازين الحياة.

كُن مِفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر، ثم انتظر من ربِّك التعويض والبر.

لا ترِدْ جاهًا، ولا تسعَ لحُسْنِ ذِكرٍ ليس مطلوبًا لذاته، وإنما يأتيك بالتبعية حين تُرضي ربك وحده، لا تبغي سواه بدلًا، ولا عن رضاه حِوَلًا.

ليس أسهل على النفس من الشح والبخل؛ فتلك فطرةٌ فيها، إلا أن السعيد من جاهد نفسه، فيقارن بين مباهج الدنيا وزخارفها، والمُثُل العليا ومكارم الأخلاق، فيجد الأخرى لا شك أبقى أثرًا، وأعظم ذُخرًا، وخيرًا أملًا.

نعم، ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]، هذه الآية تطبيقٌ عمليٌّ على شكر النعمة؛ فحين رزقك علمًا فقد رزقك لترفعَ الجهالة عن نفسك، ثم تعين جاهلًا وتأخذ بيده للطريق القويم.

وحين رزقك عقلًا فإنه رزقك إياه؛ لتُدبِّرَ به أمورك، وتنصحَ به من أراد النصح من عامة المسلمين.

وحين رزقك مالًا فإنه رزقك إياه؛ ليُعِفَّ وجهَك عن ذلِّ السؤال، وتقضيَ منه حاجة المحرومين.

وحين رزقك منصبًا وجاهًا وحسنَ ذِكْرٍ فقد رزقك إياه؛ لتنفع به المضطهدين والمستضعفين.

ألم يجدك صغيرًا فرباك؟ وضالًّا فهداك؟ وضعيفًا فقوَّاك؟ ومريضًا فعافاك؟ وفقيرًا فأغناك؟ فلا أقلَّ من أن تشكره بالإحسان لخلقه.

إن الاعتياد على العطاء يرقى بالنفس إلى أسمى الغايات، ويصل بها لأعلى الدرجات، ففي وقت الاحتياج تنكشف معادن الناس وعلو نفوسهم وقوة عزائمهم.

وإن الخير كان وما يزال في أمة الإسلام إلى قيام الساعة؛ في الأئمة الصالحين، في العلماء المتقنين، في الوعَّاظ المخلصين، في الأجواد المنفقين، أناسٌ يسَّرهم الله لليسرى، وفتح لهم من بركاته ورحمته ما سخَّرهم به لخدمة خلقه ونصرة دعوته.

وإن المرء لا تسمو إنسانيته وتكتمل بشريَّتُه إلا حين يُحسِن للناس من حوله، ويحب لهم ما يحب لنفسه، الناس منه في أمان، ومعه في اطمئنان، لسانه ينطق بالخير، وقلبه ينبض بالحب، ووجهه يفيض بالبِشْرِ، فهو يعلم أن العطاء ليس كله مالًا، وليس بالقمح وحده يحيا الإنسان، فنحن لن نَسَعَ الناس بأموالنا، ولكن يكفيهم منا أن نحسِّنَ أخلاقنا معهم، يكفيهم منا أن نُهدْهِدَ الروح المتعَبة، ونُطمئِنَ الخاطر القلِق، ونضمِّدَ القلب المكلوم، فالحياة مجال تعاونٍ لا معتركُ تطاحنٍ، الحياة عطاءٌ يرفع المشاعر الإنسانية ولا يشوبُها، لا يؤذي كرامةً ولا يخدش شعورًا، فلا منَّ ولا أذًى، بل تعاونٌ وتشارك.

نعطي، نعم، لكن ونحن متأدبون بالأدب الذي بيَّنه الله لنا في الإنفاق والعطاء، مقيدون بالعهد الذي عاهدنا عليه؛ فيصدق علينا حينها قول ربنا: ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61].

______________

د. أسماء جابر العبد

 

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم