الأربعاء 27 نوفمبر 2024 / 25-جمادى الأولى-1446

( أحبك ) حينما نفتقدها !!



                                  ( أحبك ) حينما نفتقدها !!
http://www.ganatonline.net/banota/Photos/Po120620100819947.jpg                                                                                       د. فيصل بن سعود الحليبي

كثيرة تلك الكلمات الرقراقة التي تشف ما في النفس من مشاعر نحو من نحب ، وكثيرة كذلك تلك التصرفات التي تترجم حبنا للآخرين ، كل هذا وذاك لا أشك في أثره على روح المحب مع حبيبه ، لكنها تظل كنايات عن معنى الحب لا تروي عن صريحه ، فمهما بالغتَ في اختيار الكلمات الجميلة ، أو قدمتَ من الهدايا الثمينة ، إلا أن حبيبك من زوجة أو زوج أو ولد أو صديق لن تملأ جوانحه أو تسكن نفسه إلا حينما تقول له : ( أحبك ) .

يا لها من كلمة تكفي عن كثير من الكلام والعطاء ! تشتاق لها الأنفس كما تشتاق إلى الماء القراح في الصحراء الملتهبة ، وتحلم بها كما الأمل حينما يطول بصاحبه الانتظار ، وتهفو إليه كخبر شفاءٍ بعد طول سقم .

( أحبك ) هكذا تتغنى بها الشفاه لتتراقص على أنغامها الأرواح ، وتعيد إليها الطمأنينة والسرور ، وتنسى بها العناء ، وتفسح للحبيب بين جوانحها مجالس الرضا والصفاء .

فلماذا يثقل البوح بهذه الأحرف القليلة على ألسنتنا مع عظيم معانيها وجميل آثارها ؟
لقد أطلتُ التأمل الممزوج بالتأثر حينما قرأت لإحداهن وهي تقول بكل أسف : (( أنا لم أسمع هذه الكلمة من زوجي على مدار سبع وعشرين سنة إلا مرات تعد على الأصابع ! مع العلم أن زوجي رجل من أطيب ما يكون ، هل تصدق أن الكلمة الحلوة تمحو تعب اليوم بأكمله ؟! )) .

وزدت أسفًا حينما عَلّقَتْ أخرى عليها فقالت : (( أختي : قد تحمدين الله أن زوجك قال لك ( أحبك ) ولو مرات تعد على الأصابع ـ أو حتى على السرير ـ عندما تعلمين أنني زوجة منذ ثماني عشرة سنة ولم أسمع كلمة ( أحبك ) من زوجي إلا مرة واحدة.. وعندما طلبتها منه بإلحاح !! )) .

مع هذه الكلمات المكلومة تذكرت هدي النبي  صلى الله عليه وسلم  ، وكيف كان يحرص كل الحرص أن يتبادل الأحباب في بينهم هذه الكلمة الشفافة ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _ : ( أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم  فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم  : أَعْلَمْتَهُ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : أَعْلِمْهُ ، قَالَ : فَلَحِقَهُ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ ، فَقَالَ : أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ ) رواه أبو داود وحسّنه الألباني .

ولما كان الحبيب  صلى الله عليه وسلم  أنموذجًا للأمة في بث روح المحبة بين القلوب المتآلفة على الإيمان ، فإنه لم يكتف بالأمر بالتصريح بكلمة ( أحبك ) بين الأحبة ، بل كان أحبابه يسمعونها من فيه الشريف ، ويجعلها رسولاً إلى القلوب المؤمنة لتفتح أبوابها للخير ، فترى من يستقبلها تنشرح نفسه ، وتطمئن لها جوارحه ، وتهفو نفسه لكل ما يطلبه حبيبه منه ، فعَنْ مُعَاذٍ بن جبل _ قَالَ : ( لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  ، فَقَالَ : يَا مُعَاذُ ، إِنِّي لَأُحِبُّكَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ ، قَالَ : فَإِنِّي أُوصِيكَ بِكَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) رواه أحمد وصححه الألباني .

دعني أيها القارئ الكريم أدلف معك إلى بيوتنا، لأتحسس معك وجود هذه الكلمة بيننا ، وأرصد وإياك كم لأنفاسها من عبق يطبع على جبين أحبابنا أجمل اللوحات وأروعها .

فإن الحياة مهما بلغت مشاغلها ، أو ثقلت مسؤولياتها ، أو كثرت همومها ، فتظل هذه الكلمة بلسمًا شافيًا بإذن الله لكل ما يسبقها من فرقة أو اختلاف ، وغيثًا مباركًا لكل جفاف في المشاعر أو الأحاسيس .

فكم هو جميل أن يتسابق الزوجان إليها ، فترى كل واحد منهما يتحيّن الفرصة ليهمس بها إلى صاحبه ، ولا تعتقد أنني أقصد تلك اللحظات التي يلتقي فيها الزوجان في غرفة نومهما .. فأظن أن الكلمة هنا أخذت مكانًا [ روتينيًا ] ربما تعودت عليه ، ولربما أيضًا اختلطت بها بعض الحظوظ الذاتية ، ولكن تخيّل طعمها المعسول حينما تأتي فجأة في أي وقت .. من دون حدود أو قيود .. هكذا تنطلق من غير مقدمات أو مناسبات .. هنا تصاب نفس المحبوب بالوجوم .. لتقف عند لحنها موقف الطرب .. ومحاسبة النفس على بعض الظنون والأوهام .. أو التقصير في حق هذا المحب .. لتبدأ صفحة جديدة معه على طريق الصدق والإخلاص والنقاء ..

وماذا في شأن الأولاد المحرومين من دفء ( أحبك ) ، حينما يسمعون أبًا أو أمًا يرسلانها إلى أحد أولادهم سواء أمامهم مباشرة أو عبر وسائل الإعلام .. إنه الشعور بالحرمان الحقيقي الذي لا تعوضه الماديات ولا تحل محله المحسوسات .

وإذا اعتقد بعض المربين أو الأزواج تفاهة هذا الأمر ، فأول من سجني عاقبة هذه النظرة القاصرة والفهم الخاطئ هم أنفسهم ، ولن يسلم المجتمع من آثارها السيئة أيضًا ، فهل ستصدقني إذا قلت لك : إن سقوط بعض الأزواج أو الزوجات في هوى الغرام الحرام هو تقصير صاحبه في شأن الإخبار بالحب الصادق والخوض في تجربة الغرام الحلال ؟ وأن وقوع جملة من الفتيان والفتيات في شباك المعاكسات وما تجره من عظائم هو إجحاف الوالدين لهم في شأن الكلام اللطيف الذي يشعرهم بالحب والحنان ؟! إنهم ليسوا وحدهم في هذا العالم ، بل إنهم مع العالم كله وعبر شاشة صغيرة ، يرون فيها ما يزيد من غليان المشاعر والعواطف ، وباختصار فإنهم إن لم يسمعوها من أحبابهم الحقيقيين .. سوف يجربونها مع غيرهم .. وكغيرهم !!

فمحروم .. ذلك الذي افتقدت شفاهه هذا النغم الحلو .. فتشققت نضوبًا وجفافًا .. إنك تراه مرةً يُرجع هذا إلى الطبع الذي نشأ عليه ، ومرةً إلى البيت الذي عاش فيه ، ومرّة يتذرع بقوله : (( إن هذا يقلل من شخصية الإنسان أمام أحبابه )) ، أو بقوله : (( إنني أحب أن أكون واقعيًا ، ومثل هذا لا يكون إلا في الأفلام !! )) هذا ما كتبته زوجة عن زوجها حينما طلبت منه أن يسمعها فقط ( أحبك ) !!

وما أضعف الإنسان حينما يستسلم لطبعه الخاطئ ، ليفقده لذاتٍ كثيرة ، ويحرمه أجورًا كثيرة ، ولعلك تلحظ معي كيف أن النبي  صلى الله عليه وسلم  لم يعذر الأعراب الذين اعترفوا بعدم تقبيل صبيانهم قائلين : ( أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ ، فَقَالُوا : لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  : وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ ) رواه مسلم .

وأخيرًا : فإنني لم أدعك إلى أن تحمل لحبيبك حملاً من الأزهار ينوء بها ظهرك ، ولم أسألك أن تنفق عليه المزيد من الأموال تستنفد بها جيبك ، فالأزهار لابد أن تموت وإن زهت ، والأموال لابد أن تفنى وإن كثرت ، ولكن يبقى الحب .. فأسعد بخبره حبيبك .. وقل له : إني أحبك ..

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم