السبت 21 سبتمبر 2024 / 18-ربيع الأول-1446

من قال ما لا ينبغي سمع ما لا يشتهي



 

 

د . أحمد المحمدي

الإنسان كهف مغلق ما كان صامتا، مخبوء تحت لسانه، مهاب بين أقرانه، فإذا تحدث ظهر، وقديما كانوا يقولون للصامت: «تحدث حتى أراك».

الكلمة على قسمين: بانية ونابية، وكلاهما يخرجان من مشكاة واحدة، لكن شتان بين الاثنين في الرضا أو الغضب يقول أبوعون الأنصاري: (ما تكلم الناس بكلمة صعبة إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها) هناك من يداوي بصمته ولفظه ولحظه مدركا ما قاله عمرو بن العاص رضي الله عنه: (الكلام كالدواء، إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل).

ومستوعبا قبل ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم) نسأل الله السلامة.

إن في الصمت عن السوء سلامة كما قال شميط بن عجلان: (يا ابن آدم، إنك ما سكت فأنت سالم، فإذا تكلمت فخذ حذرك: إما لك، وإما عليك).

وقد حذر السلف من فضول الكلام فقالوا عنه: (إنه يظهر من عيوبك ما بطن، ويحرك من عدوك ما سكن) وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: (اترك فضول الكلام توفق للحكمة).

إن من لا يحسن الصمت لا يحسن الحديث، ومن لا يحسن الحديث أصيبت مقالته وكان الداء منه قبل أن يكون من غيره.

يقول الشافعي رحمه الله:

احفظ لسانك أيها الإنسان

لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه

كانت تهاب لقاءه الشجعان

هذا المهاب لم تهرم قوته ولم تلن قناته، ولكن ضعفت نفسه عن تحجيم لسانه، وهنا نستحضر قول بعض الصالحين: «لساني سبع إن أرسلته أكلني»، ونظرا لخطورة اللسان وأثره السلبي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه معاذ بن جبل في الحديث الطويل الذي خاطب فيه النبي قائلا: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ وقد أوصاه النبي بوصايا متعددة وحثه على أداء الفرائض، ودله على أبواب الخير، ونبهه على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ثم ختم وصيته الجامعة بقوله: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: قلت بلى يا رسول الله. قال: «كف عليك هذا» وأشار إلى لسانه. لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول احفظ عليك لسانك، فقد ينسى هذه الكلمة، ولكنه استعمل وسيلة إيضاح وتثبيت للوصية، وتأكيد للموعظة.. فأشار إلى لسان نفسه وقال: كف عليك هذا.. فليس هناك شيء في الأرض أحوج إلى طول سجن من اللسان كما قال ابن مسعود.

وقد اشتغل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باللسان لعلمهم خطورته، واقتلعوا جذور الآفات فيه بالمحاسبة والمراقبة، ولم يركنوا إلى فضل أعمالهم وحسن صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ناصبوه العداء، ففي مسند البزار من حديث ابن أسلم عن أبيه قال: أمسك أبوبكر رضي الله عنه يوما بلسانه وقال: هذا الذي أوردني الموارد. حتى ورد أنه كان يضع فيه حصاة حتى لا يتكلم إلا بخير.

وكان ابن مسعود يمسك بلسانه ويقول: «يا لسان قل خيرا تغنم، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم» وقد أخذ ذلك من الحديث الشريف «رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم».

هذا هو المسلم الحق الذي يعيش بين درجة ترفع أو يسكت عن سوء فيغنم؛ لأنه ما يدري أن تورده تلك الكلمة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل فيها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب».

وفي الحديث الذي رواه أبوالشيخ بإسناد حسن عن أنس مرفوعاً «عسى رجل منكم أن يتكلم بالكلمة، يضحك بها القوم، فيسقط بها أبعد من السماء!».

ومن الإشارات الهامة في ضبط اللسان ما كان يفعله بعض السلف من رياضة الصمت، حتى أثر عن لقمان الحكيم كما ذكر صاحب البداية والنهاية أنه قال: «إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب».

ولهذا قالوا: جراحات اللسان لها التئام ولا يلتئم ما جرح اللسان.

 

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم