د. أميمة أحمد الجلاهمة .
لا أعرف من أين أبدأ… ولا إلى ماذا سأنتهي… ولكنني أجد نفسي مجبرة على الحديث عن وضع سبق لي التحدث عنه أكثر من مرة، وأعتقد أنني سأفعل ذلك مجددا ما دامت الحال مستمرة على وضعها،
فأن أسمع إحدى طالباتي اللاتي امتزن ببعد النظر، وصراحة زينت بأدب جم،تتحدث بمرارة عما تتعرض له من إجحاف من قبل والديها اللذين مع حبهما لها عاجزان عن تقدير مشاعرها تجاه الحياة، عاجزان عن فهم حقها في أن تكون أماً وربة بيت، في أن تكوِّن أسرة خاصة بها كأسرتهما، وضع لا أستطيع التعامل معه بصمت،
وكيف لي ذلك وهي تطالب بحق مشروع لكل فتاة بلغت سن الرشد، أهَّلها لتكون أما وربة بيت، حق مهضوم أوصلها وزميلاتها إلى الجهر بمشاعرهن، والمحاولة الجادة لطرح قضيتهن على دائرة النقاش، لعل وعسى يستفيق الآباء من نوم طال أمده، ولعل النقاش يصل بهن إلى الوقوف على حلول قد تكون من الصعوبة بمكان، لو لم يتفهم الآباء تلك الحاجات الطبيعية في نفوس بناتهن.
(أن أصعد إلى القمر… أهون علي من أن أجد من والديَّ التفهم الكامل في هذه القضية…!) هذا هو لسان حالها وحالهن، والأسباب كما أكدت لا ترجع لطمع والديها، أو لشروطهما التعجيزية، ولكنها ترجع لخوفهما من ظلم الطرف الآخر لها، الذي كما يؤكدان قد يظهر مثل الحمل الوديع، لينقلب بعد أن يمتلك زمام الأمور إلى ذئب مفترس، ذئب يعمد إلى ترك ابنتهما الغالية محطمة الفؤاد، مسلوبة الإرادة، مؤكدَين أن الشواهد على هذه النهاية المؤلمة أكثر من أن تحصى …
مبررات قد أتفهمها بحكم كوني أماً تدرك مشاعر الوالدين تجاه الطرف الأضعف في هذا الارتباط، أتفهم خوفهما من مجهول لا يُعرف مداه، خوف من فك ارتباط يُعَدُّ في هذه الأيام عاراً على صاحبه، في حين كان في عهد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، مثلنا الأعلى وقدوتنا المثلى، حقا مشروعا لكل من وجد أن الاستمرار في النكاح لن يحقق السعادة المرجوة، وضع كانت تستمر حياة الطرفين بعده لنجد أبناء كليهما من ارتباط آخر، غدوا رجالاً ونساءً يافعين نافعين،
وما معظم زوجات نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام من ذلك ببعيد، بل إن مجتمعنا حتى وقت قريب كان يَعُدُّ الارتباط للمرة الثانية أمراً مطلوباً، وليس جريمة لا تغتفر يعاقب عليها القانون، مثل حالنا اليوم…!
إن الخوف من نهاية مثل هذه دفعنا إلى قتل طموح بناتنا في حق امتلكنه وحرصن عليه، الحق في أن ترى إحداهن أمام ناظريها أسرة خاصة بها مكونة من زوج محب، وأبناء أعزاء تتابع مراحل نموهم يوماً بعد يوم، وتشعر معهم مشاعر لا يمكن أن تدركها خارج هذا المحيط الأسري.
الخوف جعلنا نختار مسيرين- كما نعتقد- غير مخيرين فرض الرهبنة على بناتنا، رهبنة حرمها الإسلام علينا، ففرضناها نحن على بناتنا…! حكم لا يقبل الاستئناف، ولا المداولة،
فالفشل لن يلحق – بزعم بعضهم – فقط بالفتاة بل بأسرتها كلها، ثمن باهظ لا يمكن أن تتحمله الأسرة كلها، وعليه كان الاختيار الأمثل ينصب في قبول هدر الفتاة لحياتها وشبابها بين والديها وأسرتها، سجن انفرادي مؤبد لفتاة بعمر الورود، أهون علينا من رجوعها إلى والديها وقد ابتليت بطلاق مشروع…!
السؤال المطروح لمثل هذين الوالدين، هل من الممكن أن تقبلا بحكم قضائي يلزمكما بالانفصال لمدة عام دون إرادة أي منكما، فصلاً تاماً مطلقاً، يصل إلى منعكما من إجراء أي اتصال، ولو كان عن طريق الهاتف؟.
وهل ستقبل أنت بأن تخوض مثل هذه التجربة؟. هل ستقبل زوجتك وضعاً مثل هذا؟.
الجواب بطبيعة الحال سيكون رفضاً مطلقاً، بل أعتقد جازمة أنكما ستستخفان بطرح مثل هذا الاقتراح، وهنا أتساءل لماذا تحلون لنفسيكما ما تحرمونه على بناتكم؟. فأنتِ حين تجدين الأنس إلى جوار رفيق دربك، وأنتَ حين تجد المودة والرحمة قرب شريكة حياتك، تحرمان ابنتكما من هذا الإحساس وهذه المشاعر المماثلة.
ثم أَوَلا تشعرين أيتها الأم بالشوق إلى منزلك الخاص وإلى زوجك لو طال فراقك له عدة أيام؟. وأنت أَوَ لا تتأفف لو استمرت زيارة زوجتك عند أهلها عدة أيام؟. ألا تلح عليها بالعودة؟. ألا تشعر بالحاجة إلى وجودها بقربك؟.
ألا تشعر بذلك الشوق مع إحجامك في العادة عن الاعتراف بذلك؟. ثم ألا يشعرها إلحاحك هذا بأهميتها؟. سعادة تتعمد إخفاءها عمن حولها… أسئلة لا تكلفون أنفسكم الإجابة عنها، فابنتكم تتمكن من الإفصاح عن مدى صلابة الارتباط الوجداني الذي جمع بينكما، ارتباط إنساني تهون أمامه الصعاب مهما عظمت…
ما زالت الدموع حبيسة مقلتي ابنتكما وهي ماثلة أمام ناظري وأنا أخط لكما هذه السطور، ما زال حديثها عن ظلم لم تجد من يرفعه عن كاهلها يرن في أذني،
وما زلت أتساءل ما موقفكما لو وقفتم أمام الله عز وجل، لتجدوا ابنتكما تحاججكما أمامه سبحانه، عن عمر هدر فيما لا طائل منه… عن حلم قتل في المهد، عن حرمانها احتضان طفل من أحشائها، طفل يبرها كما برت هي بكما، عن افتقادها مودة ورحمة نمت بينكما، وترعرعت هي في أحضانها… عن دموع أبت أن تجف… وعن ذبول أنتما غرستماه في جسدها وروحها، لتنهي حياتها كما بدأتها… دون زوج محب وطفل يترحم عليها ويدعو لها.