السبت 23 نوفمبر 2024 / 21-جمادى الأولى-1446

الإنصات إلى المريض



 

عبر سنوات طويلة مارست فيها العلاج النفسي، فقد تعلمت الكثير من مرضاي، وإنه مما تعلمته أنك تحتاج إلى شجاعة كبيرة لكي تتأقلم مع القلق، والاكتئاب، وحتى العلاقات الآخذة بالانهيار. بإمكاننا كمعالجين أن نتنحّى جانبا جانبا لنشعر بالفخر، ونفكر بالتقنيات العلاجية التي نملكها، لكن أول شيء ينبغي أن تضعه في ذهنك أياّ كان مسمّاك كمعالج، أن قدرتك على الإنصات والاهتمام بصدق هو الجزء الجوهري من عملية العلاج. لذا إذا كنت معالجاً فاهتم بهذا المستوى من الوعي، فالشخص الذي يريد رؤيتك لأول مرة هو لا يعرفك. قد تجد هؤلاء المرضى قد تم تهميشهم أو إهانتهم في طفولتهم وحتى اللحظة، أو تجد لديهم خيبة أمل وغدر في علاقاتهم وأمنيات قد تحطمت، وقد يعتقدون أن هناك شيء جذري خاطئ في شخصياتهم، شيء ما لا يمكن التسامح معه، شيء يجعلهم مختلفين عن بقية الناس. الأشخاص الذين يأتون إليك لأول مرة يشعرون أنهم وحيدون مع معاناتهم. ولربما قال لهم أحد أن أحاسيسهم لا معنى لها، وأن عليهم أن يتجاوزوا مشكلتهم بسرعة. بعد كل هذا هاهم الآن يتوجهون إليك، وأنت غريب عنهم تماما، ويتساءلون في أنفسهم إن كان بمقدورهم أن يثقوا بك.

الروائي والفيلسوف الإسباني العظيم “ميغويل دي أونامونو” تحدث في أطروحته عن معاناة الإنسان قائلاَ “المعنى التراجيدي للحياة” عندما قارن هذا الروائي الإنسان الحديث مع الإنسان صاحب الرؤية التراجيدية، ويذكر قصة بسيطة، مأخوذة من قصة إغريقية عن رجل اسمه “سولون” مؤسس الديمقراطية الإغريقية “يحكى أن رجلاً مسنّا كان يجلس على جنبات الطريق يبكي، فسأله شاب صغير “لماذا تبكي؟ البكاء لن يجديك نفعاً، ولن يحقق لك مرادك، فأجابه العجوز فوراً ” أعلم ذلك، فأنا أبكي على وجه التحديد لأن البكاء لا يفيد شيئا”. ذكر أنامونو في ملاحظته لهذه القصة “يجب علينا أن نبكي لأجل الطاعون، لا فقط أن نجد له علاج”.

من الصعب جداً في هذه الحياة أن نعاني، والأصعب أن نعاني لوحدنا، أدرك أنامونو أننا نحتاج أن نشارك معاناتنا، ونشارك دموعنا، بل حتى نتشارك بلحظات يأسنا مع آخرين. إذن من نحن كمعالجين لنظن أنها مهمة سهلة لمريض قيل له ألا ينتحب، وألا يعاني؟ أن يقوم بالوثوق بنا؟ ليست كذلك.

أحد من زارني من المرضى هي من علمتني ذلك الدرس منذ سنين مضت، عانت ماضياً مؤلماً من محاولات الانتحار، والتنويم بالمستشفيات، والانتقاد اللاذع من والدها، غابت المتعة عن حياتها. في البداية قمت بتزويدها ببعض التقنيات والأفكار عن التغيير، لكنها كانت تقول “أنت لا تفهمني” فأضفت مزيداً من التقنيات وأفكار إيجابية أخرى، لكنها ظلت تكرر نفس العبارة.

عدت إلى منزلي وبدأت أفكر بعبارتها تلك، أدركت أنها كانت محقة، أنني لم أفهمها، عندما نظرت إلى حياتي علمت أنني لم أجرب الاكتئاب إلا لأسبوعين فقط، لم أشعر قط بالاكتئاب يوميا. في الجلسة المقبلة معها بدا الحوار كالتالي:

روبرت: عندما راجعت الأجندة وجدت أنني كنت أضغط في تنفيذها معك، ومع ذلك كنت تقولين أنني لم أفهمك، ومع ذلك استمريت بمواصلة مناقشة الأجندة.

نظرت المريضة إلي بعيني الشك وردت: نعم.

روبرت: أدركت أنني في جميع مراحل حياتي لم أجرّب قط الشعور بالسوء الذي أنت عليه الآن وتعانين منه يومياً، حاولت أن أفهم، حاولت أن أقنعك، لكن أدركت بعد تأمل أنني في الحقيقة لم أفهمك.

المريضة: الآن أنت تفهمني.

____________

الكاتب: روبرت ليهي

فريق علمنا

 

 

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم