الطب الوقائي في هدي النبي صلى الله عليه وسلم يتناول ما جاءت به السُنة من أمْر المسلم بعنايته بسلامة جسده، ومحافظته على البيئة التي يعيش فيها، والوقاية من انتشار الأمراض والأوبئة المُعْدِية، حرصًا منه صلوات الله وسلامه عليه، ليس على سلامة صحة المسلم والمجتمع الإسلامي فحسب، ولكن على عموم البشرية كلها، فإن الأمراض المعدية إذا انتشرت في مجتمع فإنها لا تخصُّ أتباع دين دون دين، ولا تختار إنساناً دون إنسان، ولكنها تؤثر على حياة الناس في المجتمعات كلها، والله عز وجل قال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107).
والطب الوقائي في المنهج النبوي يقوم على الوقاية من الأمراض قبل وقوعها، والعلاج منها بعد وقوعها، أما قبل وقوعها، فيكون بالطهارة والنظافة، والمحافظة على البيئة، والطعام والشراب الصحي.. وأما بعد وقوعها فيكون بالتداوي عامة، والحَجْر الصحي مع الأمراض المُعْدية خاصة.
الوقاية قبل وقوع المرض: طهارة ونظافة البدن والفم، وسنن الفطرة:
بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة بعيدًا عن حياة المدن والحضارات، ومع ذلك أخذ يُرشد الناس إلى أهمية النظافة والغسل، ومن أبرز مجالات الطب الوقائي في السنة النبوية الطهارة والنظافة للجسد كله، وخاصة نظافة بعض أماكن في الجسد يكثر فيها العرق والميكروبات، بل وجعل ذلك من سنن الفطرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من الفطرة (من سنن الأنبياء): الختان، والاِسْتِحْدَادُ (حَلْقِ العَانَة)، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وقص الشارب) رواه البخاري. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المحافظة على نظافة وطهارة الفم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) رواه أحمد، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ” لقد كنا نؤمر بالسواك، حتى ظننا أن سينزل به قرآن”.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمان) رواه مسلم. قال ابن الجوزي: “الطهور هاهنا يراد به التطهر”. وقال ابن عثيمين: “فهو يشمل الطهارة الحسية والمعنوية”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) البخاري.
والغسل ما بين واجب ومستحب، فالغسل واجب عند الجنابة وعند الحيض وغير ذلك، ومستحب في العيدين والإحرام وغيرهما، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حدد للمسلم فترة زمنية قصوى للفارق بين الغسلين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حقٌّ على كل مسلم، أن يغتسلَ في كل سبعةِ أيامٍ يوما، يغسل فيه رأسَه وجسَدَه) رواه البخاري.
الطعام والشراب:
يظهر الطب النبوي الوقائي في الطعام والشراب من خلال مظاهر كثيرة منها:
تحريم أكل بعض الحيوانات وشرب ألبانها مثل ذي الناب والمخلب، وأسلوب ذبح الحيوانات الجائز أكلها من خلال التسمية عليها، ونظافة الطعام والشراب كتغطيتهما، وآداب الطعام والشراب كالنهي عن الأكل متكئاً والشرب مِن فيّ السقاء، والحض على تناول بعض أنواع من الطعام والشراب كالتمر وزيت الزيتون، وعدم ملء البطن بالطعام والشراب، فعن المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنِه، بحسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلات يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا محالة، فثُلُثٌ لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابه، وثُلُثٌ لنفَسِه) رواه الترمذي وصححه الألباني. قال ابن رجب: “هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها، وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت دكاكين الصيادلة “.
نظافة البيئة من الطب الوقائي النبوي:
نظافة البيئة أحد أسباب المحافظة على الصحة وهي تدخل ضمن المنهج الوقائي في الطب النبوي، فلم يهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر المسلم بنظافة جسده وثيابه فقط، بل اهتم كذلك بأمره بنظافة البيئة التي حوله، والمحافظة عليها، حتى يعيش الناس في بيئة صحية خالية من الأوبئة والأمراض، ومن ثم فكل أمر يلوث البيئة من حولنا سواء كان يتعلق بالماء، أو الهواء، أو الطريق، فهو مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) رواه البخاري. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عُرِضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت من محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت من مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تُدْفَن) رواه البخاري.
أما بالنسبة لتلويث الهواء ـ وتلويث البيئة بوجه عام ـ فذلك غير جائز ومنهي عنه، ويدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر، ولا ضرار) رواه البيهقي وغيره.
التداوي بعد وقوع المرض:
إذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم تعاليم وتوجيهات فيما يخص الوقاية من الأمراض قبل وقوعها، فإن المنهج النبوي له تعاليمه أيضًا مع الأمراض إذا وقعت، فيأمر بالتداوي والعلاج مع الأمراض عامة، وبالحجر الصحي مع الأمراض المعدية خاصة، فعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: كنت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى؟ قال: (نعم، يا عباد الله، تداووا، فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لم يضع داء إلّا وضع له دواء ـ شفاء ـ، غير داء واحد، قالوا: وما هو؟، قال: الهرم) (شدة الكبر في السن) رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني.
الحَجْر الصحي:
أوضح مجال للطب الوقائي في الصحة العامة هو ما يُعْرَف الآن بالحَجْر الصحي عند وقوع الأوبئة، وهو أهم الوسائل للحَدِّ من انتشار الأمراض الوبائية في العصر الحاضر، وبموجبه يُمنع أي شخص من دخول المناطق التي انتشر فيها نوع من الوباء، والاختلاط بأهلها، وكذلك يمنع أهل تلك المناطق من الخروج منها.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث مبادئ الحجر الصحي بأوضح بيان، فمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون، ومنع كذلك أهل تلك البلدة من الخروج منها، بل جعل ذلك كالفرار من الزحف الذي هو من كبائر الذنوب، وجعل للصابر فيها أجر الشهيد. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تُورِدُوا المُمْرِضَ عَلَى المُصِحِّ) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَد) رواه البخاري، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه) رواه البخاري. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف) رواه أحمد، وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقال: (أَنَّه كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ) رواه البخاري .
فائدة: المسلم يعلم أن الأخذ بالأسباب الشرعية لا ينافي التوكل على الله، فلا يترك الأسباب الشرعية فيقع في التواكل والتفريط، وكذلك لا يعتقد في الأسباب فيقع في الشرك، والأحاديث السابقة وغيرها يؤخذ منها إثبات العدوى والحجر الصحي، والأخذ بأسباب الوقاية من الأمراض، ومن المعلوم أنه قد ثبتت أحاديث في نفي العدوى مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) رواه البخاري. وقد أزال العلماء هذا التعارض وجمعوا بين النصوص.
قال النووي بعد أن نقل وجوب الجمع بين الأحاديث التي في ظاهرها تعارض: “ثم المختلف قسمان: أحدهما يمكن الجمع بينهما فيتعين ويجب العمل بالحديثين جميعا، ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة تعين المصير إليه، ولا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع، لأن في النسخ إخراج أحد الحديثين عن كونه مما يعمل به .. ومثال الجمع حديث (لا عدوى) مع حديث (لا يورد ممرض على مصح)، ووجه الجمع أن الأمراض لا تعدى بطبعها، ولكن جعل الله سبحانه وتعالى مخالطتها سببا للإعداء، فنفى في الحديث الأول ما يعتقده الجاهلية من العدوى بطبعها، وأرشد في الثاني إلى مجانبة ما يحصل عنده الضرر عادة بقضاء الله وقدره وفعله”. وقال الشيخ الألباني: “واعلم أنه لا تعارض بين الحديث وبين أحاديث العدوى، لأن المقصود منها إثبات العدوى، وأنها تنتقل بإذن الله تعالى من المريض إلى السليم”.
الصحة من نعم الله عز وجل العظيمة على الناس، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري. وقد احتوت كتب السُنة على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تتعلق بالأمراض وعلاجها، وكتب بعض العلماء كتباً خاصة في ذلك، فلنحرص على صحتنا البدنية والروحية بتطبيق هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حياتنا، فهديه أكمل الهدي صلوات الله وسلامه عليه.