دراسات نفسيّة : الاكتئاب .. المعاناة والأسباب والعلاج .
الدكتور جمال الخطيب .
الاكتئاب ما هو؟
هل هو مجرد حزن ؟ تكدر في المزاج؟ زعل؟زهق؟… أم أكثر من ذلك ؟؟
لنتأمل الأبيات التالية…
فؤاد ما تسليه المدام وعمر مثلما تهب اللئام
أي فؤاد هذا الذي لا تسليه المدام ..بكل ما تفعله من فك للكوابح وأي عمر ذلك الذي يشبه هبة اللئام هل تهب اللئام شيئا؟
ما هي الحالة النفسية التي يعكسها هذا البيت …وكيف كان المتنبي حين قاله ..؟ ضجرا …متبرما ..حزينا أم كل هذه الأشياء سوية .
ترى كيف كان أبو تمام حين قال :
هبي تري أرقا من تحته قلق
يحدوهما كمد يحنو له الجسد
لو يعلم الناس علمي بالزمان وما
عاثت يداه لما ربوا ولا ولدوا
أرقا لا ينام
قلقا غير مستقر
مكمودا حزينا
ضعيف الجسد حانيه
متبرما من الحياة كلها
وماذا عن ابن الرومي ذلك المتطير المتوتر :
ولقد منعت من المرافق كلها حتى منعت مرافق الأحلام
من ذاك أني ما أراني طاعما في النوم أو متحفزا لطعام
إلا رأيت من الشقاء كأنني أثنى واكبح دونه بلجام
قد حرم من كل شيء …حتى في الأحلام…كلما حاول أن يأكل يكبح غصبا وكأنه ملجوم ومسلوب الإرادة.
ويقول أكثر :
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنه لأرحب مما كان فيه وأرغد
ينقل ابن الرومي هنا الضيق وثقل الدنيا إلى المستوى الوجودي … لماذا يبكي الطفل ساعة الميلاد وهو المنتقل من الضيق إلى الرحب؟
أي عاطفة تستدعي هذا التساؤل بل أكثر :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
أي داء ذاك الذي يدفع اشخص للموت ….وأي داء يكون دواءه الموت ومن من الناس يرى الموت أهون مما هو فيه ؟
كيف يكون الموت أمنية وحلا؟
هل يمكن أن يضعك الاكتئاب في مواجهة نفسك ,هل يمكن أن يقتلك عقلك ؟أم هو الانتحار..
نعم يمكن ..تأمل ما يقول أبو العلاء :
مُهجَتي ضِدٌّ يُحارِبُني أَنا مِنّي كَيفَ أَحتَرِسُ
هل هناك اصعب من أن تسجن داخل نفسك ؟
أذكر أن أحد مرضاي قال لي ذات مرة أفضل أن أكون سجينا وغير مكتئب على أن أكون طليقا ومكتئب …قالها وهو من خبر السجون مناضلا.
لعل التجارب الإنسانية السابقة تعكس الأوجه المتعددة للاكتئاب …فهو ليس حالة حزن عابر تمر بك ذات صباح أو عند خناقة زوجية أو خلاف عمل … هو جملة من الأعراض والاضطرابات تشمل المشاعر والتفكير والنشاطات الحيوية ومن ثم السلوك ولربما يمتد ذلك إذا ما طال ليشمل موقفا كاملا من الحياة لا يرى صاحبه سوى النصف الفارغ من الكأس.
وعلميا ليشخص أحد ما بأنه يعاني من الاكتئاب يجب أن تتوافر فيه جملة من الأعراض ممتدة لفترة زمنية لا تقل عن خمسة عشر يوما يكون خلاها كل الأيام معظم ساعات اليوم حزينا مفتقدا للإحساس بالمتعة والبهجة غير آبه أو ملتفت لما كان في السابق يثيره أو يفرحه لا عشيقا أحبه ولا طعاما استمتع به, يشعر بانعدام الرغبة وحتى القدرة على عمل أي شيء,حتى النوم , ثقيل الهمة , عديم النشاط , منزويا تأكله الأفكار نادما على ما فعل متحسرا على ما لم يفعل يرى نفسه اقل من الآخرين حظا ومكانة وشأنا أما حين ينظر للمستقبل , هذا أن نظر, فلا يرى فيه إلا فشلا محققا ومستقبلا اظلم من الحاضر وربما تتداعى أفكاره لتصل إلى ضرورة التخلص من الحياة لتجنب الآلام التي لاشك قادمة أو لتجنب الأسوأ أو لان الحياة لا تستحق هذا العناء أو ” إن موتي افضل للجميع لأنني عنصر نكد دائم ,….ثم من سيفتقدني الأفضل أن اذهب واترك الجميع يرتاحون……….” إلى آخر التداعيات السلبية.لدرجة أنه قد يرى”الموت شافيا” و….ينتحر .
في اللغة العربية ..الكآبة لا تعني الحزن وإنما انكسار النفس من شدة الهم والحزن نعم انكسار.
وفي الطب الحديث الاكتئاب مرض كأي مرض آخر
والمكتئب ليس مجرد شخص حزين أو نكد أو ضعيف ا أو غير قادر على التأقلم أو مبالغ أو…هو مريض وبحاجة لعناية متخصصة ولا يستطيع التخلص من أعراضه ببساطة ودون مساعدة , تماما كما لا يستطيع المصاب بالقرحة أو التهاب المفاصل أو القلب أو السكري التخلص من آلامه ببساطة ودون مساعدة .
كيف يكون المكتئب ؟
هل يستشعر ضعفا وألما لا يدري له سببا .. ربما
هل يبدو ذلك في سلوكه دون أن يعبر عن ذلك تعبيرا محكيا ؟…ربما
في مشيته ..نعم
جلسته…نعم
نظرته …نعم
نبره صوته …نعم
تعبير وجهه …نعم
سلوكه وتعامله …نعم
قيافته وهندامه …. نعم
هل بإمكانه إخفاء بعض هذه المظاهر؟ …نعم ….كلها ؟لا.
الانتشار والكلفة :
ينتشر الاكتئاب كمرض في جميع المجتمعات وبنسب متفاوتة اقلها في تايوان وكوريا 5% أكثرها في منطقتنا 19% .
يصيب الاكتئاب جميع الأعمار والفئات من الطفل الرضيع إلى الشيخ الرجيع , الغني والفقير , المتزوج والأعزب الرجل والمرأة …
هل يصيب الجميع بنفس الدرجة؟ لا ..
النساء اكثر عرضة للإصابة وبنسبة تزيد على الضعفين , فالمرأة عرضة لضغوط الحياة مضاف إليها ضغوط الرجل واللافت في بلادنا أن مراجعات النساء المصابات للعيادات اقل من مراجعات الرجال ولعل هذا يعكس حالة الظلم الواقعة على المرأة فهي الأكثر إصابة والأقل رعاية .
أما على صعيد الكلفة فتشير دراسات منظمة الصحة العالمية الى انه وبحلول العام 2020 سيكون الاكتئاب ثاني اكبر مشكلة تلحق الضرر بحياة الناس و يسبقه أمراض القلب و يسبق هو حوادث السير و الأمراض الدماغية و أمراض الرئة .
في دول العالم المتقدمة سيحتل المرتبة الثالثة , أما في بلادنا فسيحتل المرتبة الأولى سابقا بذلك حتى أمراض القلب , لا عجب فمعدلات الانتحار بين المكتئبين مرتفعة تصل إلى حوالي 15% .
هل يؤدي الاكتئاب إلى الإدمان ؟
نعم … فالهرب إلى لخمور والمهدئات والمكيفات للتخلص من الأعراض الرهيبة ممارس على نطاق واسع ..ولكنه” فؤاد لا تسليه المدام” فقد يبدأ مكتئبا وينتهي مدمنا ..ومكتئبا أيضا.
هل يؤدي الاكتئاب إلى القلق ؟ نعم ..
وتفيد الدراسات أن الترافق بين القلق والكآبة يتجاوز أل 60% ف
الحزن يقلق والتجمل يردع والدمع بينهما عصي طيع
هل يضر الاكتئاب بمرضى القلب ؟ نعم ..
فقد أثبتت الدراسات أن مرضى القلب المصابون بالاكتئاب عرضة للمضاعفات الخطيرة بما فيها الوفاة أربع مرات أكثر من غير المكتئبين .
ماذا يحدث في دماغ المكتئب؟ لماذا يحصل ؟ ما هو السبب ؟
هل تضغطنا الحياة وتغلبنا الأيام , تحملنا مالا نطيق…فنفقد القدرة على التكيف والمقاومة فنكتئب؟
ربما.
هل هو رد فعل للتوتر الدائم ؟
ربما .
للإحباط من الفشل المتكرر ؟
ممكن.
للخسارة والفقد والحداد ؟
جائز.
أم هو جزء من مصير محتوم بسبب التركيبة الجينية والوراثية للشخص؟
هذا جائز أيضا وممكن.
باختصار هو هذا كله مجتمعا ومنفصلا وبنسب متفاوتة …
قد يمر شخصان بنفس الظرف ويتعرضان لنفس الضغوط فهذا يصاب وهذا لا ..
.لماذا ؟
لأن كلا منهما له جينات مختلفة وبنية نفسية وذهنية مختلفة.
أيضا .. قد يصاب أحد توأمين متماثلين بالاكتئاب ولا يصاب الآخر..
كلاهما بنفس الجينات ونفس البصمة الوراثية …
لماذا ؟ لان كلا منهما مر بتجربة مختلفة عن الآخر .
إذاً…كيف يتأثر الدماغ بأحد هذين العاملين أو كليهما ليحدث الاكتئاب ؟
يتكون الدماغ من عدد هائل من الخلايا يبلغ حوالي 100مليار خلية , كل خلية عليها 10الاف نقطة اتصال للاتصال بالخلايا الأخرى , ويتم الاتصال بواسطة شعيرات عصبية تتواصل كيماويا عبر موصلات عصبية , وهذه الموصلات, وهي مواد كيماوية , هي عصب الاتصالات الدماغية والعصبية تنقل الرسائل بين مختلف المناطق الدماغية وبقية الجهاز العصبي والعضلي وأعضاء الجسم الأخرى و تتعلق بالوظائف المختلفة , فرح حزن , متعة , خوف , كره .
وفيما يتحدد عدد الخلايا وحجمها جينيا , فان الاتصال بين الخلايا يتأثر بالبيئة والتجربة وهذا يعني أن الدماغ البشري في حالة متواصلة من التكيف والتغير تأثرا بكل تجربة وتعلم وكلما كانت التجربة اعمق كلما كان تأثيرها على الدماغ وتكوينه اكبر .
في الاكتئاب تضطرب الموصلات العصبية المتعلقة بالمشاعر وهي على الأغلب مواد النورادينالين والسيروتونين , فتحدث جملة الأعراض والاضطرابات الساق ذكرها .
و آخر ما حرر في هذا الموضوع كان في شهر حزيران الماضي حيث تم الكشف عن الجين المسؤول عن قدرة الشخص على التكيف مع الظروف , وقد سمي هذا الجين على اسم لموصل العصبي الأكثر اضطرابا عند الإصابة بالاكتئاب 5htt ويرى العلماء إن هذا الجين هو الذي يحدد طبيعة عمل الموصل العصبي سيروتونين , وقد دلت الأبحاث على وجود طبعتين لهذا الجين , إحداهما قصيرة الذراع , والثانية طويلة الذراع وقد تبين أن أصحاب الطبعة قصيرة الذراع من الجين أقل تكيفا مع الظروف و أكثر عرضة للإصابة بالكآبة.
ولذلك فإن ما يحدث المرض علية تفاعلية بين تكون الشخص واستعداده الفطري والظروف.
العلاج :
إلى هنا ينتهي الخبر السيئ فيما يتعلق بالاكتئاب , أما الخبر الجيد فهو أن الاكتئاب قابل للشفاء وان كل هذه الأعراض تختفي تباعا مع العلاج.
لا داعي لتحمل كل هذه المشاعر المؤلمة لفترة طويلة , ابحث عن الحل والعلاج.
تذكر دوما أن الاكتئاب مرض قابل للشفاء وان نسبة الاستجابة للعلاج عالية جدا 80-90% إلا أن هذه الاستجابة ليست فورية وتحتاج لبعض الوقت.
يعالج الاكتئاب إما
بالطرق البيولوجية وتتمثل بالأدوية أو
بالطرق النفسية مثل العلاج السلوكي والمعرفي أو
بالطريقتين معاً
تتجه الأدوية إلى معالجة الخلل الحادث في الموصلات العصبية وتعديله , إلا أن الاستجابة لهذه الأدوية ليست فورية حيث تحتاج لبعض الوقت ليبدأ أثرها المضاد للاكتئاب ,حوالي 3اسابيع.
يتشوش موقف مريض الاكتئاب تجاه العلاج مرتين الأولى في بداية العلاج حيث لا يكون قد بدا مفعوله الإيجابي بل من الممكن أن يكون العكس هو الصحيح أي ا ن أول الآثار بروزا هي الآثار الجانبية للدواء..صداع,اضطرابات معوية, نعاس….الخ مما يدفع المريض إلى التفكير بعدم جدوى اخذ العلاج فيتوقف ومن ثم يخسر فرصة علاجه .الثانية هي بعد أن يحصل التحسن ويعود الشخص إلى وضعه الطبيعي…عندها قد يعتقد المريض أن الوضع تحسن و ليس هناك من داع للاستمرار بالعلاج ,غير مدرك أن هذا التحسن قد حصل بفعل العلاج فيتوقف ومن ثم ينتكس ويخسر فرصة علاجه.لذلك هناك ثلاث حقائق أساسية يجب أن يذكرها المريض دوما فيما يتعلق بالدواء :
أولا- الأدوية المضادة للاكتئاب لا تسبب إدمان.
ثانيا-تأخذ وقت قبل أن يظهر أثرها الإيجابي-3 أسابيع- .
ثالثا-يستمر العلاج بين 6-9 شهور وفي بعض الأحيان قد يحتاج المريض لفترة صيانة طويلة.
أما العلاج السلوكي والمعرفي فهو يتجه إلى تعديا أفكار المريض حول نفسه والظروف المحيطة به كما يتجه إلى تعزيز جملة من المسلكيات الإيجابية ا التي ترفع الثقة بالنفس وتلطف النظرة للمستقبل , وهي باختصار دعوة للتفكير الإيجابي ورؤية النصف الملآن من الكأس.
يتم ذلك عبر تحليل أفكار المريض ومسائلة جدواها ومن ثم طرح بدائل للأنماط الاكتئابية.
الطريف في الأمر أن الدراسات أثبتت أن هذا النمط من العلاج يؤثر أيضا على كيمياء الدماغ والموصلات العصبية فيه , كما تفعل الأدوية .
ولوحظ بالتجربة العملية أن الأدوية أسرع أثرا وأنجع في بدايات العلاج وفي الحالات الشديدة ,و بينما العلاج المعرفي يحتاج إلي وقت أطول إلا أن نتائجه اثبت من حيث تدني معدلات الانتكاس.
والعلاج الأمثل حاليا يتمثل بمزج النموذجين في البداية وعندما تكون الحالة شديدة والمريض غير قادر على التفاعل والتعاطي مع العلاج النفسي , يفضل استعمال الأدوية , ومع التحسن وزيادة التفاهم بين المريض والطبيب يمكن بداية العلاج النفسي حيث يكون المرض قادر “ياخذ ويعطي”.
ملاحظات للأهل والأصدقاء :
لا يؤثر الاكتئاب فقط على المصاب به إنما يمتد أثره ليشمل المقربين منه سواء كانوا هل أو أصدقاء أو زملاء عمل,وسواء كنت أما ,زوجة,أختا ,صديقة ,ابنة ….فلعل أول واهم ما تفعليه هو محاولة فهم المرض وطبيعته وطبيعة علاجا ته.
جل الأمر أن تعرفي أن كل ما يظهر على المكتئب من أعراض هو أمر خارج عن إرادته ولا يستطيع منه فكاكا فإن كان حزينا عابسا طوال الوقت فذلك ليس بيده وإن كان نكدا معظم الوقت فهو لا يقصد ذلك وان كان مملا أحيانا فذلك انعكاس لما في داخله من ضجر أو سأم أو يأس, لا تلمه على أي من هذا فهو في غنى عن ذلك.
– ابد اهتمامك وتفهمك , استمعي له حين يريد أن يتكلم , لا تحاولي أن تجر الكلام منه فقد لا ير غب في الكلام ,فقلة الكلام والانعزال هو من أعراض المرض وليست موقفا شخصيا منك,ابلغه انك موجود ومستعد للمساعدة.
– يسهب المكتئب في التركيز على مواطن ضعفه , ذكريه دائما بمواطن قوته وبمواقف تمكن من مواجهتها و أثبت نفسه بها.
– احتفظي بروح الدعابة فأنت بحاجة لها , لأنك قد تكوني عرضة للإحباط أو الغضب , حاولي دوما تلطيف وترطيب الأجواء.
-شجعي المريض على مزاولة أعماله المعتادة قدر الإمكان لئلا يطيح به المرض …شجعيه على ممارسة التفاعل الاجتماعي والمشاركة بالمناسبات أدعيه و زوريه لكن لا تضغطي عليه كثيرا ولا تبالغي في توقعاتك.
– لا تستمعي لنصائح غير المختصين , قد يتطوع الكثيرون للإفتاء والتدخل ….”هذا شيء بسيط ويمر …مجرد زعل …مجرد ضيق …من فينا مش مكتئب ؟ تغلب على الأمر لوحدك …لا حاجة للعلاج ..المسالة مسالة إرادة ……قوي إيمانك بالله” وذلك إلى آخر الكلام المجاني الذي يعرقل سير العلاج ويلحق الضرر بك و بمريضك , فالمكتئب شخص مريض ليست مشكلته ضعف الإرادة أو الشخصية أو قلة الإيمان.
المصدر : موقع حياتنا النفسية .