وأسوةُ المسلمين في ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان -برغم همومه الكثيرة والمتنوّعة- يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطريّة عاديّة، يشاركهم في ضَحِكهم ولَعبهم ومُزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهنّ أو يعلمهنّ من يعمل بهنّ؟)، قال أبو هريرة: فقلت أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدّ خمسًا، قال: (اتّق المحارم تكُن أعبدَ النّاس، وارضَ بما قسَم الله لك تكُن أغنى النّاس، وأَحسن إلى جارك تكُن مؤمنًا، وأحِبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك تكن مُسلمًا، ولا تُكثر الضّحك فإنّ كثرةَ الضّحك تُمِيتُ القلب» [رواه أحمد، والتّرمذي، وحسّنه الألباني] .
شرح الحديث
لازم أبو هريرة رضي الله عنه النّبي صلّى الله عليه وسلّم ملازمة تامة، وصاحَبَه في حِله وترحاله؛ ولذا نقل كثيرًا من الأحاديث النّبوية الجليلة الهامّة، التي تحتوي على توجيهات ووصايا عظيمة.
وفي الحديث الذي نحن بصدد بيانه: كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم في مجلسٍ مع أصحابه رضوان الله عليهم فقال: من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهنّ أو يعلِّمهنّ من يعمل بهنّ؟، قال أبو هريرة: فقلت أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي – إشعاراً بالاهتمام وعظم الوصيّة – فعدّ خمسا، أي ذكر خمسَ خصالٍ، سنقف مع كل خَصلةٍ منها وقفةً.
الخَصلة الأولى: اتّقاء المحارم
( «اتّق المحارم تكُن أعبد الناس» ): المحارم تشمل جميع المحرّمات من فعل المنهيّات وترك المأمورات التّي جاء ذكرها في كتاب الله تعالى، وفي سنّة نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم، كالشّرك وقتل النّفس والسّرقة والزّنا والنّميمة والكذب والخيانة وقولِ الزور وأكل الربا وعقوق الوالدين وقطع الرحم وشرب الخمر والسّحر وغيرها، ولعلّ التعبير بالاتّقاء اعتناء لجانب الاحتماء على قاعدة الحُكماء في معالجة الدّاء بالدواء.
فإذا اجتنب المرء جميع ما نهى الله عنه ارتقى إلى أعلى مراتب العبودية، لكونه جاهد نفسه على ترك الحرام، قالت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها موضّحةً ذلك المعنى: “من سرّه أن يسبق الدّائب المجتهد فليكفّ عن الذّنوب”، وقال الحسن البصريّ: “ما عَبد العابدون بشيء أفضلَ من ترك ما نهاهم الله عنه”، ولكن ينبغي أن يُعلم أن المقصود من تفضيل ترك المحرمات على فعل الطّاعات، إنما أُريد به نوافل الطّاعات، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات، لأن الأعمال مقصودةٌ لذاتها، والمحارم المطلوب عدمها، ولذلك لا تحتاج إلى نيّة بخلاف الأعمال، كما ذكر ذلك الإمام ابن رجب رحمه الله.
الخَصلة الثانية: الرّضا بما قسم الله
( «وارض بما قَسَم الله لك تكن أغنى النّاس» ): السّعيد الحقّ هو من رضي بما قسم الله له, وصبر لمواقع القضاء خيره وشره, والرّضا هو السّياج الذي يحمي المسلم من تقلّبات الزمن, وهو البستان الوارف الظّلال الذي يأوي إليه المُؤمن من هجير الحياة، وهو الغنى الحقيقي؛ لأن كثيرًا من النّاس لديهم حظّ من الدّنيا، لكنّهم فقراء النّفس ومساكين القلب, فقد أعمى الطّمع قلوبهم عن مصدر السّعادة والغنى الحقيقيّ, الذي هو غنى القلب والرّضا وسكينة النّفس، قال الله تعالى: { {يوم لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم} } (الشّعراء: 88-89)، فالقلب السّليم هو القلب المطمئن الذي رضي بما قَسَم الله له، واطمأنّ بذكر الله عزّ وجلّ, قال تعالى: { {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} } (الرّعد: 28).
ويقول الشّاعر في المعنى الحقيقيّ للغِنَى:
وغنى النّفوس هو الكفاف فإن أبت *** فجميع ما في الأرض لا يكفيها.
والحاصل أن من قنع بما قُسِمَ له، ولم يطمع فيما في أيدي النّاس، اسْتغنى عنهم، فالقناعة غِنى وعزٌّ بالله، وضدّها فقرٌ وذلٌّ للغير، ومن لم يقنع لم يشبع أبدًا، ففي القناعة العزّ والغنى والحرّية، وفي فقدها الذّل والتّعبّد للغير.
الخَصلة الثّالثة: الإحسان إلى الجار
( «وأحسِن إلى جارك تكُن مؤمنًا» ): جعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم الإحسانَ إلى الجار من علامات الإيمان، ويكونُ الإحسان إلى الجار بأمورٍ كثيرةٍ، منها: ردّ السّلام عليه، وإجابةُ دعوته، وكفّ الأذَى عنه، وتحمّل أذاه، وتفقّده وقضاء حوائجه، وستره وصيانة عرضه، والنّصح له.
والجيران ثلاثة: جارٌ قريبٌ مسلمٌ؛ فله حق الجوار والقرابة والإسلام، وجارٌ مسلمٌ غريبٌ؛ فله حقّ الجوار والإسلام، وجارٌ كافرٌ؛ فله حقّ الجوار، وإن كان قريباً فله حقّ القرابة أيضًا.
وقد ظلّ جبريل عليه السّلام يوصي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالجار حتى ظنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ الشّرعَ سيأتي بتوريث الجار, فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) متّفقٌ عليه.
الخَصلة الرابعة:
أحبّ للنّاس ما تُحبّ لنفسك ( «وأَحبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك تكن مسلمًا» ): من كمال الإسلام وسموّه أن تُحبّ للنّاس حصولَ ما تُحبّه لنفسِك، وحُبّ الخير للنّاس خلقٌ إسلاميّ أصيلٌ ينبغي أن يتحلّى به كلّ مُسلمٍ، ولم ينصّ على أن يُبغض لأخيه ما يُبغض لنفسه؛ لأنّ حبّ الشيء مستلزِمٌ لبُغض نقِيضه.
الخَصلة الخامسة:
لا تُكثرِ الضّحك ( «ولا تُكثر الضّحك فإن كثرة الضّحك تُميتُ القلب» ): الضّحك من خصائص الإنسان، فالحيوانات لا تضحك؛ لأنّ الضّحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقفٍ يراه فيضحك منه، وكثرة الضّحك تورثُ ظلمةً في القلب وموتًا له. والإسلام – بوصفه دين الفطرة – لا يُتصوّر منه أن يُصادِر نُزوع الإنسان الفطريّ إلى الضّحك والانبساط، بل هو على العكس يرحّب بكل ما يجعل الحياة باسمةً طيّبةً، ويُحِبُّ للمُسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشّة، ويكره الشّخصية المكتئبة المتطيّرة، التي لا تنظر إلى الحياة والناس إلا من خلال منظارٍ قاتمٍ أسود.
وأسوةُ المسلمين في ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان -برغم همومه الكثيرة والمتنوّعة- يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطريّة عاديّة، يشاركهم في ضَحِكهم ولَعبهم ومُزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
ولذا فإن المنهي عنه في هذا الحديث ليس مجرد الضّحك، بل كثرته، فليس الضّحك منهيٌّ عنه لذاته، ولكن لما يُمكن أن يؤدّي إليه من نتائج وأخلاق لا يرضاها الإسلام، وكلُّ شيءٍ خرج عن حدّه انقلب إلى ضده.