سعدت كثيراً برحلة علمية إلى (الرس)، لقيت فيها بعض أعلامها، بل وبفئات مختلفة من المجتمع فيها؛ من كبار وصغار، وشباب وفتيات، من خلال عدد من البرامج الدعوية والاجتماعية، أحسست بروح ندية تفور بالأضواء والظلال الراقصة في مرمى كل نظرة، حتى الشمس كانت شعلة توّاقة من الأمل تنبعث من قلب أرضها؛ فالتقطت لها صورة بعدستي الخاصة وكأني لأول مرة أرى شروقها!!
ولكن حين تموج النفس بالمشاعر فإن كل شيء من حولك يصطبغ بصبغتها..
أنى كانت هذه المشاعر.. هناك تلتقي بالداعية والأديب والتراثي والعالم والعامي والحافظ والطالب، تلتقي بهم جميعاً في صف واحد، الرجولة تولد مع أطفالهم،وتنمو في إهابهم كما ينمو حُب النخل في قلوبهم، والحياء زينة نسائهم، يترعرع بين جوانحهن، ويرعينه كالرياحين الناضرة. تكاد تمسك بروعة الاحتساب لدى الدعاة،
وتكاد تنظر إلى الرغبة الجامحة في حب الإصلاح لدى ذوي الهمّ الاجتماعي، ولا تكاد تفرّ من قبضة الإحساس بصدق المشاعر، كل واحد منهم يُعزز في الآخر ما عُرف عنه من صفة عظيمة، أو عمل متميّز، بشفافية عالية كترقرق النسيم العليل.
اقتسموا أوجه الحياة فيما بينهم؛ حسبما يسّر الله لكل واحد منهم؛ ليرسموا السعادة على محياها، والجودة والإتقان غاية أتعبت أقدامهم الراكضة أبدا إلى مبتغاها.
في (الرس) للعمل الخيري طعم آخر، فكل العاملين في كل ميادينه ـ مع اختلاف مرجعياته الرسمية ـ متعاونون، وكأنهم فريق عمل واحد، يحمل كل منهم شيئاً من العبء عن أخيه، ويأخذ بيده برفق وحب ولين، يسدّده ويسانده، وهناك تقتسم هموم العمل، كما تقتسم التكاليف، بل قل: تستثمر أضعافاً مضاعفة. وفي (الرس) الكلمة الجميلة تتطاير على الشفاه، كما الفراشات الزاهية بألوان الطيف، تنتقى في المجالس كما تنتقى ألذ تمرات السكري والخلاص، وأطيبها لوناً وطعماً، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً}، إذا تحدثوا أصغ لحكمةٍ مُحكمة، أو بيت شعر هو بيت القصيد، أو نكتة علمية كنت تبحث عنها، أو طرفة مهذبة تفيض بها بشاشة وجوههم، أو حتى لإشارة مرفرفة تغسل بها غبار الإعياء والسقم عن قلبك.
للكلمة الطيّبة أثر في قلوبهم، وللكرم الأصيل صولة وجولة في مجالسهم، لا يبقى فيمن تلقاه إلا ملحٌّ أن تدخل بيته، وتذوق قهوته، فإذا دخلت امتلأ المجلس بكبار النفوس، شباب الأرواح، يتبادلون الأفكار الغزيرة، ويحللون الأخبار الأخيرة.
هداياهم نتاج عقولهم، كتب ودواوين، يؤرّخون فيها ماضيهم المجيد، ويرفعون فيها ذكر أبطالهم في ميسلون والجزيرة، وينثرون فيها مهجهم كما هي من غير تزويق ولا تبهير. ينظرون ـ أبداً ـ إلى تطوير محافظتهم، بلدياً، وعلمياً، وأدبياً، كل في مجاله، وأحياناً يختلط الأمر عليك، فلا تستطيع أن تحدّد تخصّص فلان أو فلان، لكثرة ما يلتقون، ويتبادلون كرائم الأفكار، ويتشاورون في جليل الأعمال، برؤية ورسالة وأهداف واضحة، لا تخطئها في كل مشروع، وعلى لسان كل مسؤول؛ حتى توحّدت رؤاهم أو تقاربت.
في الرس تخطت مشروعات الخير مرحلة الفردية إلى المؤسسية، حتى ما كان فردياً خاصاً، وقام لكل مشروع بناء لا يهدّده مؤجر، بل ووقفٌ يسهم في الإنفاق عليه لتحقيق الأمان له والاستمرار بإذن الله تعـالى. بلدة طيبة وربّ غفور، ورجال ونساء يتنافسون في حفظ القرآن الكريم، وفي صناعة الحياة، وفي تحقيق السعادة، وفي خدمة هذا الوطن الكريم. لولا خشية أن يسهو بناني عن نجم واحد من نجومها الذين لقيتهم، لأضأت مقالي بمجرّتهم المبهرة، فسلام لهم وعليهم ومنهم كذلك .