الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 / 24-جمادى الأولى-1446

لمسة الحب



بقلم أ. شائع محمد الغبيشي

إذا تقاربت الأرواحُ عاشت في أُنسٍ وهناءٍ وودٍّ وصفاءٍ، فيَطيب العيشُ وتلذُّ الحياةُ، مهما كثُرت منغصاتُها، وذلك القربُ هو قوتُها وغذاؤُها تطعم به وتُسقى:
فَقوتُ الرُّوحِ أَرواحُ المَعاني *** وَلَيسَ بِأَن طَعِمتَ وَأن شَرِبتَا
وتزداد لذةُ الرُّوح ومُتعتها ونعيمها وأُنسها، إذا تقاربت الأجساد، فلا تسَل بعد ذلك عن مشاعر الحب ولَمسات الحنان، إنها جنة الحياة.
هيا بنا نتلمس هذه المعاني في حياة محمد صلى الله عليه وسلم؛ تقول عَائِشَة: (كنتُ أشرَب وأنا حائض، ثم أُناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فيّ، فيَشرب، وأتعرَّق العرق وأنا حائض، ثم أُناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضَع فاه على موضع في)؛ رواه مسلم.
لله كم من مشاعر الحب التي كانت تُخامر قلب عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي تُبصر زوجها صلى الله عليه وسلم يتتبَّع آثارَ فمها؛ ليضع فمه في الموضع الذي وضَعت، يكفي أنها تروي لنا ذلك الأُنس الذي كانت تعيشه مع زوجها صلى الله عليه وسلم، وكأنما هي تتساءَل: هذا هدْيُ نبيِّكم؟ فأين أنتم منه؟
وهي رضي الله عنها تصِف لنا قربَ النبي صلى الله عليه وسلم منها حتى وهو يرتل آيات القرآن يختار حجرها مكانًا، فتقول: (كان يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن)؛ رواه البخاري ومسلم.
ويُصيبك الذهولُ وأنت ترى صورة بديعة يرسمها محمد صلى الله عليه وسلم، تبعَث إلى القلب رسائل حب ووِداد، يعجِز الرسامون وأصحاب البيان والبلاغة في تصوير روعتها، وجمال تناسقها، تأمَّل هذه اللقطة التي يرويها أنس رضي الله عنه في وصف سفر النبي صلى الله عليه وسلم بصفية من خيبر إلى المدينة، فيقول: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ…)؛ رواه البخاري.
إنها رسائل يبعثها محمدٌ صلى الله عليه وسلم لكل زوج، تنبض بالحب والرحمة والإجلال والتقدير، والتواضع والقرب الروحي والجسدي.
ما أعظمَك يا رسول الله! ما أسعد العين التي ظفرت برؤيتك! وما أسعد الأسماع التي شنَّفها صوتُك! وما أسعد الأجساد التي فازت بلمسة منك! حقًّا أنت مَعينُ التربية الذي لا يَنضب!
ها هو صلى الله عليه وسلم يُبصر الأحباش يلعبون بالحِراب، فينادي زوجه عائشة: “يا حُميراء، أتُحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءَه، فطأطأ لي منكبيه لأنظُر إليهم، فوضعتُ ذَقني على عاتقه، وأسندتُ وجهي إلى خدِّه، فنظرتُ مِن فوق منكبيه، وفي رواية: من بين أذنه وعاتقه … فجعل يقول: “يا عائشة، ما شبِعت”؟ قلت: لا تعجَل، فقام لي، ثم قال: “حسبُك”، قلت: لا تعجَل، ولقد رأيتُه يراوح بين قدَميه، ما بي حبُّ النظر إليهم، ولكن أحببتُ أن يبلغ النساء مقامَه لي ومكاني منه؛ رواه النسائي وصحَّحه الألباني[1].
ولك أن تتصوَّر هذا المشهدَ وعائشة رضي الله عنها تضع ذقنَها على عاتقه وتسند خدَّها إلى خدِّه، كم أسعدها هذا القرب فاستروَحت البقاء ولم ترغب في انقطاعه، مع أنها تُبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه من شدة التعب!
ما أعظمك يا رسول الله! ما ألطفَك! ما أجمل مشاعرك! إنها مدرسة الحب النبوية وكفى!
ها هو صلى الله عليه وسلم يمسَح الدمع عن خذ صفية، ويُسكتها في حب وودادٍ، فقد كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان ذلك يومها، فأبطأتْ في المسير، فاستقبَلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول: حمَلتني على بعير بطيء، فجعل رسول الله يُمسح بيديه عينيها، ويسكتها..)؛ رواه النسائي[2].
حتى القلوب الشاردة، والنفوس النافرة كان محمد صلى الله عليه وسلم يُدنيها منه لتفوز بالقرب، فما يكون لها أن تشردَ بعد ذلك، فعَنْ أبي أمامة قال: (إن فتى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه، فزجروه وقالوا: مَه، مه، فقال: “ادْنُه، فدنا منه قريبًا”، قال: فجلس، قال: “أتُحبه لأمك؟”، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم”، قال: “أفتُحبه لابنتك؟”، قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لبناتهم”، قال: “أفتُحبه لأختك؟”، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يُحبونه لأخواتهم”، قال: “أفتُحبه لعمَّتك؟”، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لعمَّاتهم”، قال: “أفتُحبه لخالتك؟”، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لخالاتهم”، قال: فوضع يده عليه، وقال: “اللهم اغفِر ذنبه وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجَه”، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)؛ رواه الإمام أحمد (36/ 545)، وصحَّحه الألباني.
لله أنت يا رسول الله، سبحان مَن وهبك هذا القلب، وهذه المشاعر التي تُحسن القرب في أروع صوره، أين أرباب التربية من أزواج وآباء ومعلِّمين؟ أين هم من هذا الفيض المعطاء؟
هيَّا نعب من هذا النبع الصافي، إنه نهرُ الحياة الذي مَن لم يغترف منه فهو في عداد الموتى.
أصابتني الحيرةُ وأنا أتلمَّس هذا الجانب في حياة محمد صلى الله عليه وسلم: أي القصص أَروي؟ وأي الأخبار أُورد؟ وأي الروايات أذكُر؟ فكانت قصة رحيلة عن الدنيا كافية في توقُّف مداد القلم عن الجَريان، واستعصائه على الوصف والبيان، تُرى كيف رحل؟ ما الذي توسد عند رحيله؟ من أقرب الناس إليه وهو يودِّع الدنيا؟ أترك الأمر لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تجيب عن هذه التساؤلات وتتحدث بنعمة الله عليها، فتقول: (توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري)؛ رواه البخاري.
حبٌّ وقربٌ وودادٌ، أي وداعٍ كهذا الوداع؟ عليك الصلاة والسلام يا رسول الله.

 
إطلالة:
القربُ منك دواءُ الوَجدِ والسقمِ
وبلسمٌ في عروقي يَستثير دمي
فينشرُ الحبَّ في أرجاء مَملكتي
القلبُ يُنشد أُلقيها بملء فَمي
تَدنو فأُبصِرُ في عينيك مرحمةً
وبِشرُ وجْهك داواني مِن اللمَمِ

—————————————————-
[1] القصة ثابتة في البخاري ومسلم، وقد جمع ألفاظها الألباني في آداب الزفاف ص 201.
[2] وصحَّحه ابن دهيش في تحقيق الأحاديث المختارة ( 5/ 105 ).

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم