الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 / 24-جمادى الأولى-1446

الإصلاح



الإصلاحُ عطرُ الإيمان، وربيعُ قلبِ الإنسان، ومنارةُ الفرحِ التي تنشرُ الأمانَ والودادَ بين القلوبِ والقلوبِ، والدروبِ والدروب…
الإصلاحُ قوّةٌ عظيمة يهَبُها الله للأصفياءِ والأتقياءِ وأنقياءِ السّرائر والضّمائر فيحرّكون
بصدقِ محبّتهم ونُبل نواياهم نبضَ المحبّة في مشاعرَ تصلّبت، وقلوبٍ تحجّرت،ونفوسٍ ازدحمت فيها كلّ أنواع الشّحناء والبغضاء.
كما أنّ الجبالَ تثبّتُ الأرضَ، وتضمنُ توازنها واستقرارها بإذن الله فإنّ المصلحين يحققون التوازن بين النفوس والنفوس، وبين الشعوب والشعوب.
إنّ الدّنيا بكلّ بهائها لتُصفّقُ للمُصلح، وتحني هامتَها احتراماً له، والنجوم بكلّ ما تحتويه من جمال لتخبو إذا ما تلألأت أنوار الفضيلة في قلوب المصلحين..
هم شعراء الحبّ، وكتبةُ المواثيق الطاهرة، وحاملو مشاعل النور في ليالي العَتَمة.. وليس غريباً… لأنّ من يسقي ضفاف القلوب الجافّة فَتُعشب وتخضرّ، ومن يَجلُو أماراتِ الغضَب من فوق الوجوه فتُشرق، لهو طَودٌ شامخ، وعالمٌ مِِصقَع، وداعيةٌ مُبدع، وإنسانٌ أصيل..
من يؤلّفُ بين القلوب والقلوب، ليحققَ سلاماً، ويزرعَ مودّة أسمى ممن أغلقَ عليه بابه، وطفقَ يؤلفُ بين السطور والسطور ليصنَعَ كتاباً…
الشعراء الحقيقيون هم الذين يجمعون شتاتَ النفوس المتنافرة والأفكار المتناثرة فيبنون بيوتَ الحياة على شواطىء بحور المحبّة…
سعادة المصلحين تكمن عندما يتصافحُ المتخاصمون ويتبادلون التحايا، وعندما تنتصرُ الحروف على السيوف، وتتفوّق الزنابقُ على البنادق،  وتطرُدُ نسائمُ الصفاء سحائبَ البغضاء، وعندما يبدّد ضوء القمر خيوط الظلام وضغائن البشر…
أيّ صنيعٍ أنبل من صنيعِ إنسانٍ أصلحَ بين زوجين متخاصمين وأعادَ لأطفالهما الأمان والحنان؟؟
أيُّ نجاحٍ أعظم من نجاحِ الأطباء المبدعين الذين يعالجون نبضات القلوب، وخلجات النفوس، ورمشات الأهداب، وأحاسيس الخواطر..؟؟!!
المصلحون يُرهقون الأبجديّة لإيجاد عبارات بليغة راقية تتواءمُ مع سمو مقاصدهم، وعلو أفكارهم لأن لغةَ الإصلاح شفيفةٌ ومأنوسة، قريبة وليّنة، تكادُ تكون كتلك التي يتفاهم من خلالُها الفراشُ مع الزّهر، والأصيلُ مع البحر، والبلابلُ مع الأفنان، والنّدى مع الأقحوان….
إنَّ من يغوصُ في أعماقِ النفوس فينتزعُ أحاسيسَ الخير، ويوقظُ النوازعَ الطيبة أمهرُ ممّن يغوصُ في أعماقِ البحار ليصطادَ اللؤلؤ والمرجان….
ما أحوجَ الدّنيا إلى مصلحين يلطّفونَ الطّقسَ العاصف، ما أحوجَ الشفاه الجافّة والوجوهَ المغبرّة إلى كلمات ٍ دافئة من حَمَلةِ البشائر وجابري الخواطر…
أيّتها الأمهات أرْضعنَ فِلذاتِ أكبادكنّ لبنَ الإصلاح وعوّدنَ النّشءَ على التسامح والمحبّة والصّفح…
أيّها الآباء تعاهدوا بَذرة الإصلاح في نفوس أبنائكم بالسقاية والرعاية، وكونوا مُصلحين ليترسّمَ أبناؤكم نهجكم…
أيها المعلمون عطّروا مسامعَ طلابكم بقصص المصلحين الأطهار والمصطفين الأخيار من الأنبياء والصّحابة والتابعين…
يا رباه، أَفِض بركاتك على قلوب المصلحين رضىً وسروراً ، وأفض رحماتك على ديارهم خيراً عميماً، وعلى ذرياتهم صلاحاً ، وعلى صحائفهم حسناتٍ وفيرة..
أيّ سَعيٍ أجدى وأسمى من سَعي المُصلح!!
أيّ نجوى أنبلَ من كلمةٍ طيبة يودعها المصلح في مسمع المتخاصمين…؟
قال تعالى: {لاخيرَ في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمرَ بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس}. [سورة النساء- الآية 114].
قد يظنّ بعضُ المغترّين بقوتهم وبجاههم أنّ الحرب في صالحهم، وأنّ الغلبةَ لهم، ولكنّ الصّلح خيرٌ لهم..لو تأملوا في سِيَرِ الأقوام السّابقة  لوجدوا كيف أنّ الله نصرَ فئاتٍ قليلة ترجو السلام وتتحرّى الأمن على فئاتٍ كثيرة تنزِعُ للغطرسة، وتتحرّى الكِبْرَ..
وقال تعالى: {والصّلح خير}. [سورة النساء- الآية 128].
المؤمنون إخوة، وكيف لا يكونون إخوة وكلمة التوحيد تنتظمُ قلوبهم، وتؤلّف أرواحهم، وتوحّد آمالهم وآلامهم!
قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}. [سورة الحجرات – الآية 10].
ثمّ تعالَوا نتأمّل رحمةَ الخالق ولُطفه وحكمته عندما رخّصَ للمصلحين الكذبَ الذي هو من أخطر آيات المنافقين. لقد رخّصَ للمصلحين الكذبَ بالقدر الذي يساعدهم على التقريب بين النفوس، وإزالة ما علقَ فيها من ضغائن وأوضار..
فعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها قال:” سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:” ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً”. متفق عليه/ رياض الصالحين باب الإصلاح بين الناس  رقم 254
((المصلحون صمام أمانٍ وحمايةٍ من الله لهم ولمن معهم ماداموا مقيمين على الصلاح مستمرين عليه))  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / ابن سعدي.
{وما كان ربُّك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مُصلحون}. [سورة هود- الآية  117].
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلفت نظرَ أصحابه إلى أهميّةِ الإصلاح وعِظيم مكانته بقوله: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصّدقة؟ قالوا : بلى. قال صلاح ذات البين، فإنّ فسادَ ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلقُ الشّعر، ولكن تحلقُ الدّين”. سنن الترمذي، حديث رقم 2509ج4 ص: 573/ طبعة دار الكتب العلمية ، تحقيق كمال يوسف الحوت..
لَعمري إنّ ساعاتِ الإصلاح، أكثرَ فرحاً وبهاءً من ساعات الفِرقة والخُصومة..
ويا طول شوقي لعالمٍ يغشاهُ المخلصون، لترفرفَ حمائمَ السلام البيض فوق خمائل الأمان.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلّ خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كلّ شرّ.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وتركَ المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردت فتنةً في قوم فتوفّنا غير مفتونين…
وصلّ اللهمّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم