(إن القرآن حينما نزل يعلن قوامة الرجل على المرأة، لم يأت بجديد مخالف للمألوف، بل كان ذلك اعترافاً بوضع قائم في ذلك المجتمع وفي غيره، وإعلانا لأسبابه كما يراها الإسلام، لذلك لم يحدث هذا الاعتراف ضجة، ولم يثر سخطًا، لأنه وضع متفق مع الفطرة نابع منها.
أما نزعة الثورة على قوامة الرجل فلم تعرف إلا في هذا العصر كنتيجة للثورة الصناعية التي فتحت للمرأة مجال العمل والكسب والاختلاط الحر، وكان الظن أن قوامة الرجل على المرأة راجعة إلى أنه المنتج الكاسب، وأنه متى أنتجت المرأة واكتسبت فلا حاجة لها إليه، ولا إلى قوامته.
إلا أن ذلك الظن تبدد حين عملت المرأة واستغنت وتحققت لها الحرية الاقتصادية، فلم يغنها ذلك عن قوامة الرجل وحماه، وعادت تتلهف وتبحث وتحشد قواها لتكون كما كانت تحت قوامة الرجل وقيادته.
ولم يكن للتشويش والتهريج حول قوامة الرجل من أثر، إلا إفساد الصلة بين الرجال والنساء في البيئات المتحضرة، حين استطالت الزوجة وتمردت، وتطلعت للحرية المطلقة التي تحدث الفوضى والاختلال.
فغدت الأسرة مفككة منحلة، بين زوج لا سلطان له، وزوجة حرة التصرف يقودها الفضول والهوى، وأبناء ضائعين بين أبوين يتناوآن ويتنازعان)[1].
والنساء أمام قوامة الرجل صنفان:
صنف قانع وراض ومطمئن بها، وصنف متمرد مترفع مكابر جاهل.
أما الصنف الأول: وهن الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله، القائمات بحقوق الزوجية داخل البيت، الخاضعات للرجال فيما جعلت فيه الرياسة، فهن النعمة الكبرى التي ينعم الله عز وجل بها على من ارتضى من عباده، ولعل من أهم مظاهر قنوتهن لأزواجهن في البيت:
• الطاعة المطلقة في غير معصية.
• حسن تدبير المنزل.
• حسن تربية الأولاد.
• عدم التطلع إلى الدنيا وتكليف الزوج فوق طاقته.
• الرضا والقناعة برزق الله تعالى.
يقول صاحب الظلال:
﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34]…، فمن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها -بحكم إيمانها وصلاحها- أن تكون… قانتة.. مطيعة. والقنوت: الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة! ومن ثم قال: قانتات. ولم يقل: طائعات؛ لأن مدلول اللفظ الأول نفسي، وظلاله رخية ندية.. وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة. في المحضن الذي يرعى الناشئة، ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته!
ومن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها كذلك، أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته -وبالأولى في حضوره- فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة -بله العرض والحرمة -ما لا يباح إلا له هو- بحكم أن الشطر الآخر للنفس الواحدة.
وما لا يباح لا تقرره هي، ولا يقرره هو: إنما يقرره الله سبحانه: ﴿ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾…
فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن أن تبيح زوجته من نفسها -في غيبته أو في حضوره- ما لا يغضب هو له، أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع! إذا انحرف المجتمع عن منهج الله…
إن هنالك حكمًا واحدًا في حدود هذا الحفظ؛ فعليها أن تحفظ نفسها ﴿ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾… والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر. بل بما هو أعمق وأشد توكيدا من الأمر. إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله، هو من طبيعة الصالحات، ومن مقتضى صلاحهن!)[2].
وأما الصنف الثاني: فالناشزات المتكبرات المعاندات.
(والمنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل، وتعلن راية العصيان وتسقط مهابة القوامة، وتنقسم المؤسسة إلى معسكرين.
فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع قلما يجدي، ولا بد من المبادرة في علاج النشوز قبل استفحاله، لأن مآله إلى فساد في هذه المنظمة الخطيرة، لا يستقر معه سكن ولا طمأنينة، ولا تصلح معه تربية ولا إعداد للناشئين في المحضن الخطير.
ومآله بعد ذلك إلى تصدع وانهيار ودمار للمؤسسة كلها، وتشرد للناشئين فيها، أو تربيتهم بين عوامل هدامة مفضية إلى الأمراض النفسية والبدنية وإلى الشذوذ، فالأمر إذًا خطير، ولا بد من المبادرة باتخاذ الإجراءات المتدرجة في علاج علامات النشوز منذ أن تلوح من بعيد)[3].
وقد وضع الإسلام الطريق الصحيح لعلاج هذا النشوز والاعوجاج فقال تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾[4].
فبدأ بالوسيلة الأولى وهي الوعظ:
وهذه الوسيلة ينتفع بها بعض النساء وليس كلهن. فهناك من الزوجات من يكفيها الوعظ الحكيم والتنبيه اللطيف والعتاب الرقيق، والذي سرعان ما تعود الزوجة بعده إلى واجباتها داخل البيت وتجاه زوجها.
وعلى الرجل العاقل أن يلتزم في وعظه بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مرغبًا في مرضاة الله، ومخوفًا من غضب الله، يذكرها بوجوب حسن الصحبة والمعاشرة، ويذكرها أيضًا بعواقب النشوز وأضراره، دون مؤاخذه شديدة أو تعنت في العقاب والحساب، وليتجاوز عنها ويصفح ويعفو، فإن الله يحب ذلك.
وليتخير أيضًا الوقت والمكان المناسب في الوعظ، حتى يؤتي ثماره، وإلا ازداد الموقف تعقيدًا، وكبرت المشاكل، وازدادت الخلافات.
ولتعلم الزوجة العاقلة أن وعظ الرجل لها، إنما هو بسبب حبه لها، وحرصه الشديد على سير سفينة الحياة الزوجية إلى بر الأمان، والوصول إلى حياة زوجية سعيدة ينعمان بأجوائها، وينعم بها أيضا أولادهما.
ولكن بعض النساء للأسف لا يكفيها الوعظ ولا يؤثر فيها، ولا يجدي معها، لذا فإن الرجل في هذه الحالة ينتقل إلى:
الوسيلة الثانية وهي: الهجر في المضاجع:
وهو من أبلغ العقوبات لأنه يمس المرأة في غرورها وكيانها؛ لأنها بفتنتها للرجل تعلم أنها قادرة على تعويض ضعفها، فإذا ما أعرض الرجل عنها وهي في أشد حالاتها إغراء ولم يؤخذ بسحرها، انهدم عندها هذا الصرح من الأوهام، وجاءت مسلمة له خاضعة لأوامره.
(فهذا تأديب نفس، وليس تأديب جسد، بل هذا هو الصراع الذي تتجرد الأنثى من كل سلاح في يديها، فارتدت بعده إلى الهزيمة التي لا تكابر نفسها فيها، فإنما تكابر ضعفها حين تلوذ بفتنتها، فإذا لاذت بها فخذلتها، فلن يبقى لها ما تلوذ به بعد ذلك)[5].
(فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء، فقد أسقط في يد المرأة الناشز أقوى أسلحتها التي تعتز بها، وكانت في الغالب أميل إلى التراجع والهيمنة أمام هذا الصمود من رجلها، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه في أحرج مواضعها)[6].
ضوابط استعمال هذه الوسيلة:
1- الهجر يكون في المضجع فقط، وليس معناه هجر البيت.
2- لا يلجأ الزوج إليها إلا بعد فشل الوسيلة الأولى.
3- االجوء لهذه الوسيلة يكون عند مخالفة النشوز.
4- ترك هذا الهجر إن عدلت الزوجة عن سلوكها، وأذعنت لزوجها وتابت.
5- لا تزيد مدة هذا الهجر حال نشوز الزوجة عن شهر، كما حدد العلماء ذلك إلا إذا علم الزوج أن الزيادة عن الشهر قد تصلح زوجته بحيث لا يبلغ ذلك أربعة أشهر[7].
الوسيلة الثالثة: الضرب.
لنا أن نتصور -قبل أن نعجب أو نعترض لا سيما من جانب النساء امرأة لم تكف عن نشوزها وعصيانها لزوجها وتمردها عليه بالوعظ والنصيحة ثم بالهجر في المضاجع ألا تستحق بعد ذلك أن تضرب ضربا شرعيا بضوابط معينة، وشروط محددة لكي ترتدع.
امرأة متبلدة الأحاسيس، معاندة، مكابرة، سيئة الخلق والسلوك ماذا يصلحها بعد وسيلتين لم ينجم عنهما شيء؟!
(تعال معي لنسأل الزوجة العاقلة: ما هو الأفضل لكرامة الزوجة، والأنسب لصيانتها، والمحافظة على أسرار أسرتها؟
أن يجري الزوج عند كل مخالفة من زوجته إلى المحكمة، طالبا منها إصلاح حالها؟ أم يؤدبها بنفسه -وفقا للكيفية والشروط الإسلامية- حتى تعود إلى حالتها الطبيعية، وتسلم الأسرة من مخاطر هذا الخلاف، وهذا التشهير، وتبقى للأسرة وأبنائها صحائفها ناصعة البياض، طاهرة المضمون؟
أعتقد أن كل الزوجات المؤمنات العاقلات معي في أن التأديب على هذا، وعدم هدم الأسرة، وتشريد الأطفال، وكذلك الجري إلى المحاكم، ونبش أسرار البيوت أمامها أفضل بكثير، وأجل على صيانة الإسلام للمرأة، وحرصه على كرامتها)[8].
ويقول الشيخ محمد الصابوني حفظه الله:
(لقد أرشد القرآن الكريم إلى الدواء، أرشد إلى اتخاذ الطرق الحكيمة في معالجة هذا النشوز والعصيان، فأمر بالصبر والأناة، ثم بالوعظ والإرشاد، ثم بالهجر في المضاجع، فإذا، فإذا لم تنفع كل هذه الوسائل فلا بد أن تستعمل آخر الأدوية، وكما يقولون في الأمثال: (آخر الدواء الكي).
فالضرب بسواك وما أشبهه أقل ضررا من إيقاع الطلاق عليها، لأن الطلاق هدم لكيان الأسرة، وتمزيق شملها، وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم، كان ارتكاب الأخف حسنًا وجميلًا، وكما قيل:
وعند ذكر العمى يستحسن العور.
فالضرب ليس إهانة للمرأة -كما يظنون- وإنما هو طريق من طرق العلاج، ينفع في بعض الحالات مع النفوس الشاذة المتمردة التي لا تفهم الحسنى، ولا ينفع معها الجهل.
العبد يقرع بالعصا ♦♦♦ والحر تكفيه الإشارة
وإن من النساء بل من الرجال من لا يقيمه إلا التأديب، من أجل ذلك وضعت العقوبات وفتحت السجون)[9].
في كيفية استعمال هذه الوسيلة:
يقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله: وأما الضرب فاشترطوا فيه أن يكون غير مبرح، والتبريح: الإيذاء الشديد، وقد روي عن ابن عباس تفسيره الضرب بالسواك ونحوه أي كالضرب باليد، أو بقصبة صغيرة ونحوها.
ثم قال: يستكبر بعض مقلدة الإفرنج في آدابهم منا، مشروعة ضرب المرأة الناشز، ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه، فتجعله وهو رئيس البيت مرءوسًا بل محتقرًا، وتصر على نشوزها حتى لا تلين لوعظه ونصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، ولا أدري بم يعالجون هؤلاء النواشز؟ وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به؟
إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة فيحتاج إلى تأويل، فهو أمر يحتاج إليه في حال (فساد البيئة) وغلبة الأخلاق الفاسدة.
وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، وإذا صلحت البيئة، وصار النساء يعقلن النصيحة، ويستجبن للوعظ، أو يزدجرن بالهجر، فيجب الاستغناء عن الضرب، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء[10].
إن الضرب المأمور به في الآية هو الذي لا يجرح ولا يكسر عظمًا، أو يترك عيبًا، بل وأن يكون الضرب بعيدًا عن الوجه مفرقًا عن البدن، غير مستمر في موضع واحد لئلا يعظم ضرره.
في ضوابط استعمال هذه الوسيلة:
1- تحديد سبب الضرب والهدف منه:
فلا يكون سبب الضرب عنادًا من الزوج، أو هوى في نفسه، أو حبًّا في الإيذاء أو رغبة في الانتقام، بل يكون في حالة عصيان الزوجة لزوجها فيما تلام عليه من الشرع وتأثم به.
وعلى الزوج أن يخاف الله تعالى ويتقي الله في زوجته في استعماله لهذا الحق، مبتعدا عن سوء استغلاله.
2- تحديد موعد الضرب:
وهو بعد استنفاذ الوسائل السابقة، وهي الموعظة والهجر في المضجع، ولذلك فليس في بداية كل خلاف يباح للرجل أن يضرب زوجته.
3- تحديد أدواته:
قال القاسمي في تفسيره: قال الفقهاء: لا يجوز أن يضرب زوجته بسوط أو بعصا وإنما بيده أو بسواك، أو بمنديل ملفوف[11].
وذلك يشير إلى أن الضرب إنما شرع للتأديب لا للإيذاء للتعليم لا للتنكيل، ويتعدى الرجل حدوده عندما يضرب زوجته بأي شيء تصل إليه يده، أو يتحجج بأنه كان غضبان، أو لم يتحكم في أعصابه، ألا فليتق الله الرجال في أزواجهم.
4- الترغيب في ترك الضرب:
من الزوجات من لا ينصلح حالها إلا بالضرب، ومنهن من قد يفسد الضرب حالها أكثر مما هي عليه، فلا تكون حينئذ فائدة؛ لذلك فقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى تركه، وعدم استعماله إلا إذا غلب الظن على الرجل أن الضرب هو سيصلح من حال زوجته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر الليل؟!) وفي رواية أخرى يقول: (أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره).
5- التخويف من سوء استعمال الضرب، وطلب الكف عنه بعد تحقيق المطلوب:
لذلك قال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾.
فيخوف الله عز وجل الرجال، إن ثابت نساؤهم إلى الحق، وأطعنهم، ألا يحملهم الطغيان والظلم على مزيد من الضرب، إذ قد تحقق المطلوب.
ولن يصيب الحق أي رجل ظن بجهله أنه بشيء من القسوة على زوجته، وبعض الخشونة في معاملتها يثبت له أو لغيرها أنه رجل، وأنه بملاطفتها والإقبال على مودتها يكون ضعيفًا يخشى أن يعرف الناس عنه ذلك.
وهذا لا شك من الجهل في دين الله تعالى، وعدم اتزان شخصية الرجل.
فإن الزوجة حينما تحترم زوجها وتحبه وتعجب به وتطيعه، فإن ذلك يكون نتيجة لتقواه لله تعالى فيها، ولقوة شخصيته الممزوجة بالحب والحنان والعطف، وكذلك لرجاحة عقله وشرف أخلاقه.
أما الشجار بدون داع، وارتفاع الصوت داخل البيت، والسب والشتم، وعبوس الوجه؛ فإن ذلك يورث المرأة الاستهانة بزوجها، والإحساس بأنه سبب شقائها وهمومها وفضيحتها أمام جيرانها وأقربائها.
ويقول الأستاذ أحمد فائز: (ويشير النص إلى أن المضي في هذه الإجراءات بعد تحقق الطاعة بغي وتحكم وتجاوز.
ذلك حين لا يستعلن النشوز، وإنما تتقي بوادره، فأما إذا كان قد استعلن فلا تتخذ تلك الإجراءات التي سلفت؛ إذ لا قيمة لها إذن ولا ثمرة، وإنما هي صراع وحرب بين خصمين ليحطم أحدهما رأس الآخر! وهذا ليس المقصود ولا المطلوب.
وكذلك إذا رئي أن استخدام هذه الإجراءات قد لا يجدي، بل سيزيد الشقة بعدًا، والنشوز استعلانًا، ويمزق بقية الخيوط التي لا تزال مربوطة. أو إذا أدى استخدام تلك الوسائل بالفعل إلى غير نتيجة، في هذه الحالات كلها يشير المنهج الإسلامي الحكيم بإجراء أخير لإنقاذ المؤسسة العظيمة من الانهيار قبل أن ينفض يديه منها ويدعها تنهار)[12].
قال القرطبي رحمه الله: وإذا ثبت هذا فاعلم أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحة إلا هنا، وفي الحدود العظام، فساوى، معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات، ائتمانًا من الله تعالى للأزواج على النساء.
أما قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ فقال القرطبي أيضًا
إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب، أي إن كنتم تقدرون عليهن، فتذكروا قدرة الله، فيده بالقدرة فوق كل يد. فلا يستعل أحد على امرأته فالله بالمرصاد، فلذلك حسن الاتصاف بالعلو والكبر[13].
وماذا بعد هذه الوسائل؟
الحل الأخير إن لم تأت هذه الوسائل الثلاث السابقة بثمارها في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾[14].
إن المنهج الإسلامي يلجأ إلى هذه الوسيلة عند خوف الانشقاق، وانهيار الأسرة، ببعث حكم من أهله يرتضيه، وحكم من أهلها ترتضيه (يجتمعان في هدوء، بعيدين عن الانفعالات النفسية والرواسب الشعورية، والملابسات المعيشية، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين، طليقين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة، وتعقد الأمور، وتبدو-لقربها من نفسي الزوجين- كبيرة تغطي على كل العوامل الطيبة الأخرى في حياتهما، حريصين على سمعة الأسرتين الأصليتين، مشفقين على الأطفال الصغار، بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر-كما قد يكون الحال مع الزوجين في هذه الظروف- راغبين في خير الزوجين وأطفالهما ومؤسستهما المهددة بالدمار.
وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين، لأنهما من أهلهما، لا خوف من تشهيرهما بهذه الأسرار؛ إذ لا مصلحة لهما في التشهير بها، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها.
يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح، فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين، يقدر الله الصلاح بينهما والتوفيق)[15].
[1] الأسرة في الإسلام – للدكتور مصطفى عبد الواحد ص (71-73).
[2] في ظلال القرآن (2/ 652).
[3] دستور الأسرة في ظلال القرآن ص (157- 158).
[4] النساء: 34.
[5] المرأة في القرآن – لعباس العقاد ص (126).
[6] دستور الأسرة في ظلال القرآن ص (159).
[7] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 172).
[8] تفسير القرآن للشيخ شلتوت رحمه الله (ص176) بتصرف.
[9] روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن (1/ 474).
[10] تفسير المنار (5/ 74) بتصرف واختصار.
[11] محاسن التأويل (5/ 1222).
[12] دستور الأسرة ص (162).
[13] تفسير القرطبي (3/ 152).
[14] وهذه الوسيلة سننتاولها بالشرح والتفصيل في رسالة قادمة إن شاء الله بعنوان ((الطرق الشرعية لحل الخلافات الزوجية)).
[15] دستور الأسرة – ص (163).