بقلم د.مها سليمان يونس
أستاذة الطب النفسي-كلية الطب-جامعة بغداد – العراق
تركز مدارس العلاج النفسي ونظرياته المتعددة على عاملي (الطمأنينة) و (السكينة) في جلب الاسترخاء النفسي والجسدي المطلوب لاتمام عملية العلاج وخصوصأ في أضطرابات القلق والرهاب ونوبات الهلع التي تأخذ من الصحة النفسية كل مأخذ عندما تضرب صاحبها أحيانأ بقوة مفاجئة كالزلزال وتدفعه الى الاعتقاد بأن ما يصيبه هو مقدمة للموت أو فقدان الوعي أو أن قلبه في خطر كبير لكون مشاعر القلق العاصفة هذه تسبب خفقانأ شديدأ في القلب وأرتفاعأ في ضغط الدم الشرياني مما يستحدث لدى المصاب أعراضأ اخركالشعور بوخز في البطن أو ضيق شديد في الصدر والتنفس مع الشعور بالتنميل والخدر في الاطراف . قد تتكون مشاعر القلق بشكل تدريجي أو أثر صدمة مفاجئة ثم تستمر في طريقها الى القلق المزمن والذي يؤثر بدوره على نوعية حياة المصاب وعلى متطلباته الوظيفية والاجتماعية وهنا تكمن صعوبة الشفاء بالعلاجات العقاقيرية لوحدها أذ يحبط الطبيب المعالج والمصاب بها من طول فترة تعاطي الدواء وشدة أعراضه الجانبية وعلى رأسها مشكلة الادمان النفسي أو الفسلجي لأن مضادات القلق هي من عائلة المهدئات وعند قطع العلاج من غير أشراف الطبيب تظهر الاعراض الانسحابية الشبيهة بأعراض القلق الاصلية لتدور دائرة المرض والعلاج. توصل أطباء الامراض النفسية وعلم النفس العيادي الى ضرورة الأستعانة بالاساليب غير الدوائية جانبأ الى جنب مع الأدوية وأحيانأ بدونها , هذه الاساليب تقتضي تمرين النفس والجسد على أكتساب الاسترخاء الذي يقود بدوره الى الطمأنينة والسكينة.
يبدأ المعالج رحلة العلاج السلوكي الادراكي بهذه المرحلة من جلب الاسترخاء وشعورالطمأنينة لتتوالى بعدها الخطوات في أبقاء هذا الشعور وأستخدامه للشفاء بطرق سلوكية متعددة كالتمارين الرياضية والاستماع الى الموسيقى وتمارين اليوغا أو جلسات التأمل وتشتتيت الافكار ما أضطرب منها أو ما شذ الى الدرجة المرضية وقد تتم ممارسة هذة الاساليب العلاجية بشكل فردي أو جماعي وبأشراف المختصين .دلت ألعديد من اللقى الاثرية في حضارات ما قبل التاريخ على وجود مفاهيم مشابهة الى حد ما حيث يسود الايمان بقدرة الالهة على أحداث الشفاء للمرض النفسي أو الباطني عن طريق تلاوة تعاويذ من قبل الكهنة داخل المعابدوالتوجه لها بالدعاء والتضرع في الحضارة الفرعونية والبابلية وحضارات الشرق الاقصى ويؤدي غضب أو لعنة الالهة الى حصول الاضطرابات النفسية وزوال الرضا والطمأنينة .
لقد أقترن مفهوم الطمانينة بالصحة النفسية منذ عدة عقود, فحسب تعريف منظمة الصحة العالمية أن سلامة الصحة النفسية لا تعني فقط خلوها من الامراض النفسية بل تمتد لتشمل الشعور بالرضا الداخلي والنظر بايجابية الى مواقف الحياة المختلفة وبالتالي تكوين المناعة النفسية والقدرة على التكيف معها ومعالجتها , وقد تناول علماء الطب النفسي وعلم النفس هذا الموضوع في مئات الدراسات المنشورة والحلقات العلمية بشكل أجراء أبحاث ميدانية على عينات مختلفة من الاصحاء والمصابين بأمراض نفسية أو بدنية ضمن ما يعرف بجودة الحياة اليومية (quality of life) وأستنبط الباحثون في منظمة الصحة العالمية مقياسا مقنناُ منذ عام 1996 تمت ترجمته الى عدة لغات منها العربية وطبق في عدة بلدان وبعدة مجالات مستندة أساساُ الى توفر عنصر الرضا النفسي الداخلي في علاقاتة مع نوع وتاثير المرض موضوع الدراسة مما يوضح أهمية هذا الشعور الفريد من الناحية العلمية والبحثية , والذي من الممكن توفره حتى في حالات الكرب النفسي أو الشدائد الخارجية ,توسع أستخدام هذا المقياس ليضم الجوانب الروحية والدينية عن طريق تفاعلها مع جودة صفات الحياة اليومية في طرح علم وطب نفسي وأيضاُ ترجمت الى اللغة العربية وطبقت في بعض الدول العربية أستنادأ الى النتائج السابقة وملاحظات الباحثين من وجود تأثير أيجابي لقوة المعتقد الديني والروحي على أعلاء تقييم جودة الحياة وبالتالي تحقيق قدر أكبر من الشعور بالرضا والسكينة . أستطاعت هذة الاجراءات البحثية والاكاديمية من سبر هذا الشعور والترويج لاهميتة .أن أساليب الفحص السريري التشخيصية والمعتمدة من قبل الاطباء النفسيين في مراكز الصحة النفسية والمستشفيات والعيادات لكون الاعراض المرضية وبالاخص الحادة منها والشديدة تطغي على حالة المريض والمراجع و كونها تتطلب علاجاُ عقاقيرياُ عجولاُ عدا عن كثرة الاعباء المهنية والادارية مما يدفع بالمعالجين الى قلة الاكتراث بالجوانب النفسية والوجدانية للمريض بدون وجود اعراض مرضية كان يتم السؤال عن مدى رضاه قبل حدوث تلك الاعراض أو حتى مدى تأثر مستوى رضاه بعدها وقد يعجب أحدنا من حقيقة أن الشعور بالرضا والسكينة قد يصاحب أشد الاوضاع سوءاُ وليست هناك شروط محددة بامكانها خلق هذا الشعور لمن يحيد عنه.
الطمأنينة من الجانب الديني
أورد الذكر الحكيم شواهد عديدة لاثر الطمانينة ومدى تداخلها كمسبب ونتيجة لعملية الذكر والخشوع الملازمتان للايمان واداء العبادات والطاعات بنفس منفتحةووما يؤدي له من أكتساب الطمأنينة وزوال الخوف والشك والقلق من المجهول كما قال عز وجل :بسم الله الرحمن الرحيم( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) صدق الله العظيم.28 ,سورة الرعد , نرى هنا في الاية الكريمة تنبيهأ وتشديدأ على الاثر النفسي الطيب المرافقة لعملية الذكر بأشكاله والقلوب هي النفوس حيث يحصل المسلم المؤمن , (meditation) التأمل والخشوع والهدوء النفسي العميق الناتج عن ذكر الله وأداء الطاعات. ( ثُمّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَعذّبَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ) [التوبة:26]. ( هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوَاْ إِيمَاناً مّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) [الفتح:4]. ( لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) [الفتح:18]. ( إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَىَ وَكَانُوَاْ أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً ) [الفتح:26].
وفي تدبر هذه الايات الكريمة نلاحظ تكرار (أنزل الله سكينته) بما يوحي بعظمة تأثيرها على عقل وسلوك الانبياء والرسل والمؤمنين من البشر العاديين وكانت سلاحهم الماضي في تلك المواقف العصيبة التي أمتحن فيها الثبات على العقيدة ففي الغار كان الرسول (ص) وابوبكر الصديق(رض) في أصعب الاوقات وأوحش الامكنة ,في غار مقفر ولحظات تفصلهما عن أكمال الرسالة أو الموت ليشعروا بالامان والعزم وكان طابورأُ من الجنود يقف معهم (وأيده بجنود لم تروها) , في الايات الكريمة الاخرى ,يتشابه المغزى ويتكرر وكأن السينة المسبوقة بالتنزيل يعقبها داذمأ مكافاه بالغة الاثر ظهرت بشكل حماية وشعور بالامن أو زيادة في الايمان (ليزدادوا أيماناُ) أو نصرأُ (وأنابهم فتحاُ قريبا) , أو زيادة في الثبات (والزمهم كلمة التقوى) , أي ان للسكينة لمسة ربانية سبق القرأن نظريات وكتب علم النفس بقرون .
يتعين على العاملين في قطاع الصحة النفسية من أطباء أو معالجين نفسيين تفعيل هذه المفاهيم الدينية والعلمية في أن واحد وخصوصاُ في مجتمعاتنا العربية والاسلامية حيث التربه مهيأه لاستخدام هذه الوسائل جنبأ الى جنب مع العلاج العقاقيري وقد تبدو الفكرة صعبة التحقيق لاسباب عديدة ولوجود القصور الواضح في شقي الصحة النفسية وهما البحثي والخدمي ولكن في الامكان نشر الوعي العلمي أولأُ بأهمية وتأثير الشعور بالسكينة ودراسة الطرق العملية لدمج الرضا النفسي المتاتي عن الايمان الديني في العلاج الادراكي السلوكي على أيدي المختصين والمتدربين ويمكن أيضأُ أشراك المهتمين من علماء الدين في تعزيز المفاهيم العقائدية وترابطها مع الصحة النفسية .