وكلُّ شيءٍ سرَّني تذهب فيه مَذهبي
إن غضبَ الأهلُ عليَّ كلُّهم لم تغضبِ
بمشى أَبي يوماً إليَّ مشية المؤدِّبِ
غضبانَ قد هدَّدَ بالضرْب وإن لم يَضرِبِ
فلم أَجِد لي منهُ غيرَ جَدَّتي من مَهرَبِ
فجعَلتني خلفَها أنجو بها، وأختبي
وهْيَ تقولُ لأَبي بِلهجة المؤنِّبِ:
ويحٌ لهُ! ويحٌ لِهـ ـذا الولدِ المعذَّبِ!
أَلم تكن تصنعُ ما يَصنعُ إذ أَنت صبي؟
شعرت بالسعادة تغمرني وأنا أقرأ هذه الأبيات التي ذكرتني بجدتي الحبيبة…تلك الإنسانة الرائعة التي تركت بصماتها الرائعة على شخصيتي وعلى مهاراتي فما زلت إلى وقتي الحاضر أتقن فن الكروشيه الذي علمتني إياه رحمها الله ولست أنسى تلك الأوقات التي كانت تقضيها معنا في تحدي لقدراتنا بألعاب التخطيط، والألعاب التراثية التي تعلمنا بسببها الكثير من القيم والمهارات الاجتماعية ،أما حضنها الدافئ فقد كان يثرينا بأجواء عاطفية لا حدود لها وخاصة في حال انشغال أمي إذ كانت رعاية جدتي لنا تخفف عنها كثيرا من الأعباء وكانت خبرتها واستشاراتها الصحية والتربوية مرجعا لها حين تحتار معنا ..لقد كانت رحمها الله ملء السمع والبصر وهي تغمرنا بعطفها ولن أنسى سجادتها وخمارها اللذين أحتفظ بهما إلى الآن وأشعر بالانتعاش وأنا أشمهما وصورة حبيبيتي تقفز إلى ذاكرتي وهي ساجدة وصوت بكائها المكتوم ونشيجها يصلني وأنا نائمة في سريرها.
ماتت جدتي رحمها الله وتركت في قلبي جرحاً لا أظنه يبرأ.. ولكن حقا مازالت قضية الأجداد والجدات تستحوذ على اهتمامي ما بين إيجابيات وسلبيات يتعرض لها خبراء التربية والنفس بكثير من البحث والدراسة إذ يشكل وجود الجد والجدة في المجتمع العربي عامل استقرار للأسرة ورمزا لترابط افرادها وامتدادا للعائلة وصونا لوحدتها. كما يلعب الأجداد بوجه عام دوراً إيجابياً في تربية الأحفاد فهم يشكّلون مصادر حب وتربية وتوجيه إضافية بالنسبة للطفل. ولهم دور مهم في مرحلة المراهقة حين يبحث المراهق عن حضن محايد يأوي إليه فيجد الإصغاء والتخفيف والتوجيه المناسب – وهو ما يحتاج إليه كثيراً – خاصة عندما يكون منغلقا نفسيا عن سماعه التوجيه من الأبوين.
ولكن بالمقابل يشتكي الكثير من الآباء من التناقض في وجهات النظر والأساليب التربوية بينهم وبين والديهم – أقصد الجد أو الجدة – مما يربك الخطة التربوية للوالدين ويسبب خللاً في منظومة القيم التي يحرصان على ترسيخها في الطفل الذي يجد في التستر عن خطأ ارتكبه أو في حمايته من قبل الجدة أو الجد وحصوله على ما يرغب مخرجا من ضوابط والديه وتصبح شخصيته غير ناضجة، تتلقى الأوامر والنواهي من جهات عدّة ومتناقضة مما يشعره بالحيرة وعدم الوضوح في ما يجب فعله وما يجب تركه. كل تلك السلبيات ، قد لا يعيها الأجداد لكنهم يفسرون تصرفاتهم أنها تنطلق من شعورهم بأن «أعز من الولد ولد الولد» وبأنهم الأقرب لهؤلاء الأطفال عاطفيا بعد والديهم وهم ملاذهم في خريف العمر يستأنسون بهم ويشعرون بأهميتهم من خلالهم.
ولا شك أن تلك المشاعر صادقة وجميلة وهي تخفف من ضغوط الحياة على الجدين ولكنها ستكون أجمل في حال الاتفاق المسبق على الدور الذي يريد الجد أو الجدة أن يؤثر به في حياة حفيده أو حفيدته سواء كان ذك عن طريق الزيارات أو الاجازات وخاصة في زمننا الذي تطورت فيه التكنولوجيا بشكل غير مسبوق حتى انشغل الجميع بها بما فيهم الأجداد ولا بد من التنبه ل مراعاة مشاعرهما وعدم الاثقال عليهما إذ أن هناك الكثير ممن يستغلهما ويلقي عليهما بمسؤولية أولاده كاملة مما يشعرهما بالضيق والانزعاج وقد يعجزان عن التعبير ـ وعلى الأم أو الأب أن يحسنا التعامل مع والديهما أمام أبنائهما، ومناقشتها بطريقة هادئة وشفافة، لأن أسلوبهما هذا سينقل إلى أبنائهما فيما بعد.
ومن المهم جدا الاتفاق المسبق مع الجدين حول القوانين المطبقة على الأبناء والطريقة التربوية الممنهجة معهم والخطة في التعامل مع سلوكياتهم الخاطئة والاشارة بلطف إلى آثار التدليل المفرط والتناقض التربوي الذي يؤدي لتربية مذبذبة كما يجب مصارحة الآباء بأخطاء الأحفاد، ومناقشة بعض تصرفاتهم التي قد تتطور إلى ما هو أسوأ.. يتم نقاش كل ذلك في جو خالٍ من النقاش الحاد والتوتر المؤدي للمشاكل والمصادمات بحيث تلتقي الآراء وتصب في معين واحد هو توفير ما ينفع الصغير في دينه ودنياه.