الخميس 19 سبتمبر 2024 / 16-ربيع الأول-1446

قصتي مع القراءة



على طريقي إلى (القيصرية)؛ حيث دُكان جدي ـ رحمه الله تعالى ـ كانت عناوين القصص في مكتبة الفلاح لصاحبها الأستاذ إبراهيم الطريري ـ رحمه الله تعالى – تسرق عينيَّ مني حتى أكاد أسقط، تجذبني الرفوف المكتنزة بمؤلفات العقاد والمنفلوطي والرافعي وأحمد أمين حتى أميل لليمين ذاهبا، ولليسار آيبا، في حين لم يكن في يديَّ الصغيرتين ما يكفي لشراء كل ما ترقص له النفس طربا وشوقا من هذه العناوين.
كان الكتاب عزيزَ الوفرة في بيوتنا، لكن حبَّ والدي للقراءة اجتذب بعض الكتب الشرعية والتاريخية خصوصا إلى رفٍّ أو رفين، فكانت من مسارح مطالع مراهقتي المنضبطة، حين لم يكن هناك من يقول لي: اقرأ، وإن كان سقف التحصيل العلمي في الأسرة عاليا.
شغفٌ غريب جعلني أتابع أحزان (سندريلا) اليتيمة، وأبحث معها عن حذائها المفقود، وأعيش مع (أطفال الغابة) في السلسلة الخضراء التي لا أظن بأني غادرت شيئا من قائمتها الطويلة.
في الوقت نفسه كنت أُثني ركبتيَّ (وحدي) كل ليلة بين يدي عمتي التسعينية (مريم) ـ رحمها الله ـ لتسكب ـ بقصصها الشعبي المثير ـ في قلبي الغضِّ أحاسيس النساء المكبوتة في زمن لا تكاد تجد أحدا يستمع إليهن، فقصة: (سرور ما في البيت نور إلا بك يا سرور) تعبر عن توجس المرأة من زواج زوجها بعد موتها، وخوفها على أولادها من زوجة الأب (مرة الأبو) كما كنَّ يسمينها، وقصة امرأة الوجيه المتسلط، الذي لم يكن يتحدث معها، حتى اكتشف أنها بَنَتْ تمثالا مُصمتا تصبُّ في جوفه مراراتها، حتى انفلق نصفين من ضراوة كآباتها، وحكايات أخرى كانت تمتلئ بالأحداث الغريبة. اكتشفتُ بعدها كتاب أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب للكاتب السعودي عبدالكريم الجهيمان رحمه الله، الذي جمع ذلك الموروث الشعبي وصاغه بأسلوب شيق، وهو عدة أجزاء، وانكببت على قراءته، مما وسَّع خيالي، وزاد من شغفي بالقراءة.
تبع ذلك التفاتةٌ تتناسب مع سن الثالثة عشرة، حيث عشت ـ مع مجموعة من زملائي في المعهد العلمي في الأحساء ـ مغامرات عشرات الألغاز، ضمن سلسلة شهرية تصدر عن دار المعارف المصرية، بعنوان: المغامرون الخمسة، كانت منطلقا لي في التصاق الكتاب بأناملي، حتى كنت آكل وأشرب وهو في يدي، لا أستطيع أن أضعه حتى أنتهي منه، وفي كل يوم أختم واحدا وأستفتح آخر، نعم لم يكن هناك محتوى ذو قيمة كبرى، ولكن كانت هناك جاذبية كبرى.
مثل هذه القراءات المبكرة توسع لدى الناشئ دائرة خبراته، وتفتح أمامه أبواب الثقافات، وتحقق له التسلية والمتعة معا، وتكسبه حسًا لغويًا أفضل من أقرانه، وتمنحه تلك العوالم الجديدة التي تجتاز به حدود مدينته قدرة على التخيل المطلق من القيود، وبعد النظر، وتنمي لديه ملكة التفكير السليم، وترفع من مستوى فهمه للأشياء، وتسهم في تخصيب ملكة القدرة على التعامل مع المشكلات التي تواجهه.
يقول (أورفيلبريسكوت): «قليل من الأطفال يتعلمون حب الكتب بأنفسهم، ويحبون أن يؤخذ بأيديهم إلى العالم الرائع للكلمة المكتوبة لتنير لهم الدرب».
ويقول (راسل ستافر): حب القراءة والكتابة لا ينتزع انتزاعا، بل ينمو بشكل مطرد.
ويقول محمد عدنان سالم: «بناء مجتمع قارئ يبدأ من الطفولة، فمن لم يقرأ ويتعود على القراءة في صغره، يندر أن يتحول إلى قارئ جاد في كبره».

تُرى هل بقيت (الكتب) جزءا من جوائز التفوق والإبداع في مؤسساتنا التعليمية؟ أم أن ردود الأفعال من بعض الطلبة وذويهم ممن عصفت بأذواقهم وسائل العصر، وحرمتهم من لذائذ منادمة خير جليس، ومن تنشق روائح الأوراق المعتقة في مخازن التاريخ، جعلتهم يبحثون عن أنماط أخرى من الهدايا؟!
من أبرز مصادر الكتب في الفترة الأولى من حياتي واستمرت بعد ذلك، الإهداءات التي كان المعهد العلمي بالأحساء يقدمها للمتفوقين، ولا تخلو من كتب، بل قد تقتصر على الكتب، ثم الرحلات إلى مكة المكرمة بالذات، حيث كانت مكتبة الباز القريبة من الحرم آنذاك، بل التي كانت في حضنه المبارك، تبيع الكتب القديمة بأسعار منخفضة، ثم الرحلات العلمية والتربوية للرياض، وزيارة مكتباتها الزاخرة، العامة منها والتجارية.
لكن نقلة حدثت في نوع ما أقرأ حين دخلت المرحلة الثانوية، حيث حف بي وبزملائي عدد من الأساتذة الفضلاء، الذين كانوا علماء في العقيدة والفقه والحديث واللغة والأدب، وبدأنا نشعر بأن القراءة الموجهة أكثر أثرا في البناءين العلمي والأدبي، فتوثقت علاقتي بالمكتبات العامة التي كانت متوفرة آنذاك، وأقربها مكتبة المعهد العلمي، وكانت زاخرة بالمراجع والكتب المنوعة من شتى العلوم، والمكتبة العامة التي تتبع لوزارة المعارف آنذاك، وكان أمينها والد صديقي الدكتور أحمد العرفج، وجارنا الأدنى، بل كانت قريبة من المنزل، فكان الوصول إليها سهلا ومسموحا به من الأهل.
وفي إحدى زياراتي للرياض -ضمن رحلة علمية مع مجموعة منتخبة من المعهد- كان الطالب حمد من معهد الرياض العلمي يرافقنا في الحافلة الصغيرة؛ ليعرفنا بأثريات البطحاء وخزان الرياض الذي كان أبرز معالم العاصمة آنذاك، وفي أثناء التجول كان يتدفق بمعلومات، لأول مرة أسمع بها في حياتي، تقرأ الواقعين العلمي والفكري اللذين تموج بهما سوق الثقافة آنذاك، وكلما قال معلومة نسبها لكتاب، وذكر مؤلفه، بل ربما ذكر الصفحة، فبهرني، وأصابتني صدمة مما أرى وأسمع، فرجعت الأحساء وأنا لا أحمل من الرياض أبرز من صورة هذا الطالب العبقري، وأستشعر مدى الفرق بيني وبينه من الثقافة والعلم.
فأقبلت على القراءة النافعة أكثر من المسلية، وبدأت أتحدث بما أستفيده من قراءاتي بين زملائي، فأعود بمزيد من التحفيز الذي جعلني أقرأ عشرات الكتب، من الغلاف إلى الغلاف. قرأت في النظرات والعبرات ووحي القلم وقصص الحمصي ومحمود شيت خطاب ورجال حول الرسول لخالد محمد خالد وصور من حياة الصحابة، وكتب في السيرة وبخاصة تهذيب سيرة ابن هشام لعبدالسلام هارون، وما كان يتدفق به مركز الدعوة والإرشاد الذي كان بجوار منزلنا في (حي الوسيطا) في الطريق إلى المسجد القريب، وكان يرأسه فضيلة الشيخ عبدالرحمن الحواس ثم الشيخ عبدالمحسن البنيان ثم الشيخ خالد المغربي، وكلهم كانوا قراء مغرقين في القراءة، بل كان أوسطهم صاحب مكتبة الأحساء التجارية التي كانت، ومكتبة التعاون من أبرز مكتبات الأحساء التي تقرب من أيدينا كتب التراث خصوصا، وما جَدَّ من كتب، وكانت تطبع بعض الكتب التاريخية عن الأحساء وأدبها، كتاريخ الأحساء للشيخ محمد بن عبدالمحسن العبدالقادر وشعراء هجر، وقد قرأتهما بالكامل، وديوان ابن المقرب العيوني الشاعر الأحسائي الكبير.
ومن أبرز الذين كنت أقتدي بهم في قراءتي عمي الأستاذ الدكتور أحمد بن عبدالعزيز الحليبي، الذي كان سخيا معي في كل شيء، وأهداني نحو مائة كتاب في فترة قصيرة جدا، وأقامني مكانه في الإمامة وفي الخطابة لأول مرة، ودفع بي في مضامير عديدة، ومن أبرزها الدراسات العليا التي دفعتني للتعامل مع ألوف الكتب والأبحاث. واستمر الولع بالقراءة حتى أصبحت مدمن شراء ومدمن قراءة، وأضحت معارض الكتب التي كانت تقام في الرياض وفي غيرها زوادة لي، حيث أشتري منها بكميات أكبر بكثير من حجم وقتي، لكني مؤمن أن الشيء الوحيد الذي إذا اشتريته لا يمكن أن تخسره هو الكتاب، وكم كنت ولا أزال أُسَرُّ وأفرح فرحا غامرا حين أحتاج إلى معلومة أو كتاب فأجده في مكتبتي، حتى جمعت آلاف الكتب، وبذلت على تصنيفها عشرات الآلاف من الريالات، ولا أجد مكانا أحسُّ فيه بأنني أعيش في بيئتي الطبيعية، وأتنفس فيه بحرية مثل المسجد والمكتبة.

الكتب هي الإرث الذي يتركه العبقري العظيم للإنسانية، إرث ينتقل من جيل إلى جيل، هدية إلى أولئك الذين لم يولدوا بعد (جوزيف أديسون).
لقد تتلمذتُ على أيدي أولئك العباقرة خمسين عاما كافية أن أنتقل إلى مرحلة الكتابة التي بدونها تصبح مجرد القراءة كوبَ قهوة مع صديق، أو شرفةً على نهر لا غير.
نعم، للكتابة في حياتي شأن آخر، فقد صحبت القلم الرصاص ثلاثين عاما، واختطَفَتْ لوحةُ المفاتيح أناملي لتكون مصب شلالي كل يوم.. نعم كل يوم؛ مقالة، أو خطبة، أو برنامجا تدريبيا أو إذاعيا أو فضائيا، أو ورقة عمل لمؤتمر، أو حتى حضور ندوة أو ورشة أو جلسة علمية تحتم علي طبيعتي ألا أذهب خالي الوفاض، بل لا بد من التحضير الوافر للقضية المطروحة.
كل ذلك يجعل القراءة والكتابة في حياتي توأما، لا يمكن أن يفصل بينهما حتى الدكتور عبد الله الربيعة جراح التوائم السيامية السعودي المبدع.
إن الإلزام بالكتابة هو الذي أخرج لنا مئات الكتب الرصينة في مختلف التخصصات الإنسانية خصوصا، والعلمية عموما.. فأكثرُ كتبِ الصف الأول من كتاب العالم اليوم من أكثر من قرن مجموعةٌ من المقالات الصحفية، الأجنبيةُ والعربيةُ سواء، وسل الرسالةَ والمقطم والمقتطف والمنهل والمجتمع والدعوة وعالم الكتب والعربية والفيصل والعربي والمعرفة والمجلات العلمية والصحف اليومية في مشارق الأرض ومغاربها، عن مئات الكتب التي ولدت من رحمها المنجب، فكيف ببحوث الماجستير والدكتوراه التي أعدَّها أجمل إجبار على التأليف عرفته الإنسانية؛ حيث التجويدُ والإتقان بأعلى درجات التحفيز تحت إشراف علمي.
ومن ذلك كله أصدرتُ نحو عشرين مؤلفا، وفي أدراج حاسوبي ضعفها ينتظر قدر الله وتوفيقه.
من أجل بحثي في (الشعر في الأحساء في القرن الرابع عشر الهجري) جُستُ مكتبات وزارة التعليم ودارة الملك عبدالعزيز ومكتبات أرامكو ومكتبات البحرين والمكتبات الأثرية والمكتبات الخاصة في البيوتات العلمية، وقلبت أقدم الدوريات في العصر الحديث والمخطوطات التي يتحفظ عليها أهلها، أكثر من الكتب والمؤلفات، وغصت في صدور الذين أوتوا العلم فاستنبطت من أراضيها الخصبة نوادر الأحجار الكريمة.
ومن أجل بحث الدكتوراه استشرتُ أكثر من سبعمائة مؤلف ومرجع من بلادي السعودية وسوريا وتركيا ومصر والمغرب والكويت وغيرها، بل والذي نفسي بيده لكنت أذاكر بعضها كأنما سأؤدي فيه اختبارا دراسيا، ولذلك أصبحت تلك المعلومات جزءا من شخصيتي.
بصراحة.. لا يعذبني مثل أرتال الكتب التي أمر بها ولا أستطيع أن أقرأها.. ليس في حياتي شيء غير مرضٍ لي مثل مكتبتي الحبيبة، كم أودُّ أن تكون أكثر تنظيما مما هي عليه الآن!!
اعتدتُ أن أختار لكتابتي أكثر الساعات تجليًا، إنها ساعات البكور الموحية الملهمة، حيث تتنزل البركة في ثوانيها فتغدو حقولا من النور.. وسنابل من التألق.. حتى لأسأل ـ أحيانا ـ بعد أن أكتب: من كتب هذا؟! أما إذا مر بها زمن، فقد أشك بأنني الذي كتبته بالفعل، وقد أبحث عنه في محرك البحث الإلكتروني!!
يقول بشر بن المعتمر: «خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الاستماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع».
وقد قلت يوما: يسري بي الليل والساعات تَعجبُ من / صليلِ مِرودِ أقلامي إذا انتحبا / حتى إذا ما أتم الهمُّ جولتَه / تبرعمَ النُّورُ في أفنانِ ما كتبا..

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم