ليس عيبا أن أخطئ فأنا إنسان، وقد تعلمت أن الخطأ أحد السمات الطبيعية للشخصية الإنسانية بوصفها البشري، فهي تخطئ وتصيب، وتفسد وتصلح، وهذا في الإطار الاجتماعي أمر مقبول، أما غير المقبول فهو التمادي في الباطل والترفع عن الاعتذار مع تأكد الوقوع فيه؛ بدعوى أن الاعتذار ضعف، أو أن الرجل العاقل لا يخطئ، أو أن الحكيم المسدد لا ينبغي أن يتعثر! وهذا كلام سمج!
نعم ؛ أصحاب النفوس المستقيمة يجتهدون قدر الطاقة في الابتعاد عن الخطأ، ويتجنبون ما استطاعوا الزلل، لكن إن تعثرت خطاهم بحكم الطبيعة البشرية التي لا تعرف الصواب المطلق، سارعوا إلى الاعتراف بخطئهم والاعتذار عنه بلا مواربة ولا تردد، وهم يدركون أن هذا يرفع من أقدارهم وهذا حق غيرهم عليهم، وهذا منهج أهل العقول التي لا تحسن القفز فوق الأخطاء.
لقائل أن يقول: الاعتذار أمر غير محبب إلى النفس بحكم الفطرة. وهذا أمر صحيح وقد راعى الإسلام ذلك واتخذ له طريقا وقائيا هو الحذر من الوقوع في كل ما يجلب عليك الاعتذار فعن أنس بن مالك — رضي الله عنه — أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إيّاك وكلّ أمر يعتذر منه” مراعيا طبيعة النفس المجبولة على ذلك، لكن إذا وقع الخطأ لا محالة فهنا لا ينبغي المكابرة، بل التسليم بالخطأ والاعتذار عنه ساعتها وحده كفيل بأن يمحو تلك الزلة
كما قال الشاعر العربي محمّد بن إسماعيل الإسحاقيّ:
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه … وكان الّذي لا يقبل العذر جانيا
وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على المبادرة إلى الاعتذار متى ما توجب ذلك، وأقرب مثال على ذلك ما حدث مع الصديق رضي الله عنه كما يروي عائذ بن عمرو عن واقعة حدثت بين أبي سفيان حين مر وهو كافر على سلمان وصهيب وبلال، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدوّ الله مأخذها — يقصدون أبا سفيان —. قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟ فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره، فقال: «يا أبا بكر لعلّك أغضبتهم. لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك». هنا بادر الصديق إلى الذهاب إليهم ولم تمنعه مكانته بين الصحابة من الذهاب إليهم وقوله لهم: يا إخوتاه؟ أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخيّ”.
هذه هي النفوس العظيمة التي لا تكابر ساعة الخطأ بل تهرع إلى الحفاظ على رصيدها الأخلاقي والاجتماعي وقبل ذلك الديني.
لقد ذهب أبو بكر معتذرا، ذهب رجلا وعاد كما ذهب لم يأخذ الاعتذار منه شرفا أو مهابة بل الحق أنه زاده رفعة ومكانة.
الاعتذار عن الخطأ يجلب المودة بين الإخوان، وينزع الضغائن والأحقاد، ويزرع المحبة والوئام، ويستجلب التواضع ويمحو الكبرياء.
وإذا كان الاعتذار خلق قويم فإن قبول الاعتذار لا يقل فضلا عن ذلك، فأهل الفضل إذا اعتذر إليهم المعتذر قبلوا ذلك منه، وأدنوا صاحبه إليهم وقربوه، بل ذكر التاريخ لنا أحداثا يرفع المظلوم الحرج عن ظالمه حتى لا يحوجه إلى الاعتذار إذا قدم معتذرا!
كما قال الشاعر:
قيل لي: قد أَسَاءَ فيكَ فلانٌ … وسكوتُ الفتى على الضيم عارُ
قلتُ: قد جاءني فأَحْسَنَ عُذرا … دِيَةُ الذَّنبِ عندنا الاعتذار
ولله در محمد بن زنجي البغدادي
إِذا اعتذرَ الصديقُ إِليكَ يوماً … من التقصيرِ عذرَ أخٍ مقرِّ
فصُنْهُ عن جفائكَ واعفُ عنه … فإِن الصفحَ تشمةُ كل حرِّ
ومن قبله قال الشافعي
اقبلْ معاذيرَ من يأتيكَ معتذراً … إِن برَّ عندكَ فيما قال أو فجرا
لقد أعطاكَ من يرضيكَ طاهرُهُ … وقد أجلكَ من يعصيكَ مستترا
وهذا إبراهيم النّخعيّ رحمه الله تعالى، ذهب إليه رجلا معتذرا فقال له: “قد عذرتك غير معتذر، إنّ المعاذير يشوبها الكذب”
وما أروع الحسن البصري رحمه الله حين ذهب إليه رجلا معتذرا فقال له: “تقدّمت لك طاعة، وحدثت لك توبة، وكانت بينهما منك نبوة، ولن تغلب سيّئة حسنتين”.
ورحم الله الشّافعيّ حين قال:
يا لهف قلبي على مال أجود به … على المقلّين من أهل المروءات
إنّ اعتذاري إلى من جاء يسألني … ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات
الاعتذار ليس عيبا ولا ضعفا، بل قوة وخلقا، والضعف والجبن الحقيقي فيمن أخطأ فعجز عن قول: أنا آسف.