منذ الأزل يحاول الفلاسفة وعلماء النفس الوصول إلى تعريفِ الحُبِّ ومفهومه، وكل فيلسوف له رؤيته الخاصّة، وكل حكيم يرى الحبَّ من وجهة نظره، وعلماء النّفس يجتهدون ليجدوا له تفسيراً علميّاً، ناهيك عن العُشَّاق وتعريفاتهم، فكل عاشق يُعرِّف الحُبّ على أنّه محبوبته، ويعطي اسمها مُلَخِّصَاً للحب، وتكون في عينيه تجسيداً للحب الذي لا يكون بغيرها.
واختصاراً لكل ذلك فإنّي أرى أن الحُبَّ حالة من الرُّقِي في أسمى أوجهها…
الحب عاطفة، شعور لا يمكن للكلمات أن تَصِفه، حالةٌ كانت وما زالت مبهمة للجميع، فهي أسمى أوجه الرُّقِيّ، الرّقيّ في النواحي كلّها بلا استثناء… ولنفهم هذا الرقيّ في الحب، لا بدَّ لنا من استعراض أنواعه، فهناك حبُّ صافٍ غير مشروط، وحبٌّ مشروط، وحبٌّ من طرفٍ واحد.
الحُبُّ الصَّافي غير المشروط هو حبّ الأبوين لأبنائهم وحبّ الأبناء لأبويهم، هذا حبٌّ صافٍ غير مشروط، لا يأتي مع التجربة، ولست بحاجة إلى معرفة الطرف الآخر لتُحِبَّه، هو حبٌّ فطري لا سبيل للحياد عنه ولا إنكاره، أما الحبُّ المشروط فهو الحب بين طرفين وجد كلٌّ منهما في الآخر ما يرغبه، فهو مشروط بالرغبة وتحقيق ما يطلبه كل فرد من الآخر، وحين انتفاء هذه الشروط يزول الحب كما بدأ.
أمّا الحُبّ من طرفٍ واحد، فكما هو واضحٌ من اسمه، هو أن يحب طرفٌ طرفاً آخر من دون علم الطرف الآخر بذلك الحب، ربّما لرفضه ذلك الحب، وهذا أصعب أنواع الحب، فمن يُعطي يريد أن يأخذ بالمقابل ومن دون أن يطلب، لأنّه لو طلب لانتفت البهجة من الأخذ وأصبح بلا قيمة عاطفية.
الرّقي في الحب يكون في الترفُّعِ عن الشهوات، فلا يرى الحبيب محبوبه جسداً، ولا غاية له فيه إلا أن يكون معه، يعطي بلا مقياس ولا ينتظر المقابل، سعادته تكمن في إسعاد الطرف الآخر، مجرَّد ابتسامة من شريكه تجعله أسعد المخلوقات، وحُزن الشريك يكون ضربة مؤلمة في أعماق قلبه… الحبُّ رُقي في التعامل المادي، فلا تكون المادة سبباً ولا هدفاً، إنما هي غاية لتحقيق سعادة الطرف الآخر، والحب رقي في المشاعر، فلا يجرح الحبيب حبيبه ولا يؤذيه ولا يظلمه، ويرى الدّموع من الطرف الآخر كالخناجر تُمزِّق أوصاله.
الحب رقيٌّ في العطاء، فلا حدود للبذْلِ بينهما، ولا وجود لكلمة “كفى”… وهو رُقي في الأخلاق، فكلاهما يحرص على أن يرتقي بأخلاقه من أجل الطرف الثاني، ويترفّع عن أي كلمة قد تؤذي مشاعره أو أيّ كلمة لها معنيان… الحب هو المرادف للرُّقي التّام، سُمُوٌّ لا يُقابله سُمُوّ ولا يعلوه شيء، هو قمّة الرُّقي في الاحترام والتّقدير، فكلاهما يرى أنّ الطّرف الآخر أكثر مما يستحق، وأنّه يحاول أن يرضيه فحسب… الحبّ رُقيّ في الخلافات، فلا تجد تجاوزاً ولا انتقاصاً من طرفٍ لآخر، وبعده يُسارع كل منهما لإرضاء الآخر، لماذا؟ لأنّه يحبّه.
الحب كلمة صغيرة مؤلفة من حرفين، ولكنه سر الوجود الإنساني، وهو الصواب المتراكم في قلوبنا وأرواحنا، وهو الذي يقدم لنا الحل الدائم ليتمم الحياة بألوانها كافة… وينتمي الحب إلى كثير من التصنيفات والدوائر، فمنها ما هو الأشد والأقوى مثل حبّ الله لعباده وخلقه وحبهم له ــــ سبحانه ــــ فهي الأقصى والأعلى والأسمى شرفاً، والسر الكامن في وجود هذا الكون العظيم، فقد خلقه الله بجزء الرحمة الأعلى وأوجده بإبداع عجز عن فهمه خلق كثير إلى يومنا هذا، ثم يتدرج الحب فيكون حب الوالد لولده، وحب الأم لولدها، فكان من الحب الثاني سمواً وعلواً في هذا الكون العظيم، فهي التي تحملت ولا يكون لها أن تبغض أو تخذل ابنها ولا والده كذلك، فهو حب فطري فطر الله الناس عليه.
كذلك من الحب الذي انتشر صيته بين الناس حُبُّ الرجل لزوجه وحبّها له، وهو حُبٌّ لطيف السيرة، حسن البقاء، يقوم على مودة ورحمة بينهما تتسامى يوماً بعد يوم، فهي تقدم له قلبها وعقلها وجسدها وهو يفعل المثل بحب ورحمة ومودة وتَحَمُّل لكل ما قد يظهر من سوء، يكونانِ متفاعلين في الخير والسعادة ويقدمان للدنيا أسرة متماسكة ينبني عليها مجتمع بأكمله، فإن كان الحب صواباً صحيحاً والقلوب متآلفة فهو مجتمع سليم متماسك قادر على سدّ كثير من الثغرات.
إنّ الحب شجرة يتكوّن جذرها الذي يغذّيها من الوفاء والأمانة والراحة للمحبوب، يليه ساق الاهتمام والرعاية والحنان، ثم أغصان المودة والرحمة التي تفيء على الأوراق وهي الثقة في البيت، والأمان والراحة والاطمئنان والعشق وكل تعابيره في تلك الأوراق والكلمات الجميلة، فالأوراق لا تستطيع العيش بدون تلك الأطراف من الجذر والساق والأغصان، فإن لم تتوافر العناصر السابقة فإن الورق سيذبل ولن يكون له أي معنى طالما أن الغذاء الذي سيصله غير كاف، وهو ما وصل إليه كثير من الناس للأسف، مما أرداهم في حالة من عدم الثقة والشك الذي يقتل تلك العلاقة الجميلة بين طرفين، ولذلك فإن على أي محب أو محبة البدء دائماً بتعزيز أواصر شجرة الحب من البداية، إذ يبدؤون بغرس جذر سليم قادر على مواجهة الصعاب والحياة القاسية لينمو ساق سليم، يتبعه نمو متوازن للأغصان التي ستحمل تلك المعاني الجميلة والمشاعر التي يستعجلون دائماً الحصول عليها، ولا تخفى على الجميع تلك الثمرات التي تنتج من الشجر السليم، فالشجر العفن لا يخرج ثمراً، والثمر السليم للزواج هو الأبناء والعيش الطويل والهانئ للأسرة مدى الحياة.
كم هو جميلٌ الحب في معناه الراقي، وكل من جرَّبه هو من السعداء، فارتقوا إليه لترتقوا به، ابحثوا عنه ولا تفرضوه ولا تطلبوه، فالحب كالرزق، تسعى إليه لأنه لن يأتيك وحده، ولو طلبته لكنت شحاذاً، وأغلب الظن أن تسمع الطرف الآخر يقول لك: “الله يعطيك!”.
والحب لا يحلو إلا بالتعبير عنه، فإن أردت أن تصنع لحظة حب فهذا ليس شيئاً معجزاً ولا مستحيلاً، الأشياء البسيطة التي نفعلها لشركاء حياتنا هي التي تصنع مدينة الحب الكبيرة، فلو أردت أن تبني قلعتك الجميلة بحبك فعليك بكلام الحب وفِعال الحب وهمسات الحب اللطيفة أيضاً.
أهلاً بكم في عالم “الحُبِّ” الجميل.