الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهما كذلك ـ والله ـ فعلاً ولا ريب، الجد والجدة نور البيت وبهجتُه وفرحتُه، نورٌ على نور، فمن اجتمع له النوران فهنيئًا له الضياء وهنيئًا له السناء، إنهما أصل الأسرة، وإليهما ينتمي الأحفاد، وتلتف حولهما القلوب، وتستدفئ بحنانهما الصدور، (نور البيت) نور له أصل في سنة النبي e، ففي حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ e نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ: إِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ ) حَدِيثٌ حَسَنٌ.
والجدان ـ وأقصد بهما في حديثي (الجدَ والجدة) ـ قد خطهما الشيب، فاستنار البيت بمشيبهما، كيف لا وقد أمضيا من عمريهما في طاعة الله ما لم يمضه أحد غيرُهما من أهل البيت، هذه الطاعات ـ يا أحبة ـ له أثر بالغ في تنزل الرحماتِ والبركات من عند الله تعالى، وهذا الشعور حينما يستصحبه الأولاد والأحفاد يشعرون به بالطمأنينة والسكينة وخصوصًا حينما يرون الجدين وهما في ذكرهما وتنفلهما وصيامهما، فهنيئًا لكلِ بيت حوى جدًا وجدة.
هذا تمهيد أدلف به إلى عشر وقفات:
أما الوقفة الأولى: فحقوقهما، فإن لهما من الحقوق ما للأب والأم الأقربَين، بل إن من وجهة نظري أنهما ربما كان البر بهما مضاعفًا حيث يجتمع في ذلك ثلاثة أمور أساسية:
ـ أولها: أنهما والدان، والله تعالى يقول: (وبالوالدين إحسانا).
ثانيهما: أن ببرهما تبر والديك، لأن البر بالأجداد يسر الآباء، فاجتمع بران في بر، والحمد لله على فضله!
ثالثهما: أنهما بلغا من العمر ما بلغا، والنبي e أوصى بالكبير فقال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا) رواه الترمذي وحسّنه.
وعلى هذا، فإن لههما علينا: البرُ والإحسان، وخفضٌ جناح الذل من الرحمة، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)، والدعاءُ والاستغفارُ لهما، والقيامُ على شؤونهما، وبذل ما في الوسع في إسعادهما من تقديم أطيبِ الطعام والشراب، وأحسنِ الدواء، واختيارِ أحسن المكان لسكنهما في البيت، وتوفيرُ كل سبل الراحة لهما، ومفاجأتُهما بحفلات التكريم والهدايا والولائم، ومراعاةُ ظروفهما الصحية في المناسبات العائلية، وألا يقدمَ عليهما أحد في مطعم أو مشرب أو مجلس، وأن يكونوا في مقدمة كل احتفالية أو مناسبة، والمؤانسةُ لهما في جلوسهما حيث السؤالُ عن صحتهما، أو عن هموهما، وفتحُ ملفات الماضي معهما، فغالبًا ما يسرهما ذلك، ولربما بدءا الحديث بزفرة تنبئك عن المعاناة التي كانا يعيشانها، ولكنهما حينما يستذكرانها يجدان في ذلك متعة ولذة، حينما يريان النعمة التي أنعم الله بها عليهما.
ومن الإحسان إليهما أيضًا: صحبتهما بسفر أو نزهة إذا كانا قادرين على ذلك، من باب الترويح عنهما، وخصوصًا حينما يكون ذلك إلى أداء عمرة أو حج، فالرحلة هنا يكون لها عبق خاص، ومتعة لا تمثالها متعة، برٌ..وطاعةٌ..وإحسانٌ..وصحبةٌ..وخدمةٌ..ورعاية!! يا الله..ما أجلها من نعمة إذا وُفقت لها أيها الابن المبارك!! وفي حال تعبهما ومرضهما فالأمر يحتاج منك تعبدًا لله تعالى وتصبرًا تحتسبه عند خالقك، فمعروفهما أعظم من أن يرد، وإحسانهما أكبر من يجازى، فابذل وسعك مع والديك في تمريضهما، وأنت أصدق إيمانًا من أن تتأفف منهما أو تضجر من أنينهما، أو تكونَ ـ لا قدر الله ـ سببًا في إبعادهما من منزلكم ـ بل نافس غيرك على خدمتهما، وسارع لإرضائهما، وإن استطعت ألا تُغلب على ذلك فافعل، وأنت أهل لذلك وفقك الله، وهي فرصة أن تستجلب الدعوات الكريمات من لسانهما الرطب بذكر الله، فالمريض منهما مضطر، والله يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)، فلا يفوتنك خيرُ هذه الدعوات من رب الأرض والسموات.
يا هنيئًا لك يا من أسعدك الله بجد وجدة أو أحدهما في منزلك يا هنيئًا لك!
الوقفة الثانية: إن وجود الجدين في الأسرة يمنح الأحفاد شعورًا بدفء الحنان وغزارة المشاعر، لما يجده الأحفاد من الحب والألفة، وما ذاك إلا لما يتزين به كثير من الأجداد بالحلم والأناة والصبر وطيب الخاطر، أسوتهم في ذلك النبي e فإنه أكرم الأجداد قاطبة ـ بأبي هو أمي ـ عليه الصلاة والسلام، فماذا كان يصنع النبي e بحفيديه الكريمين الحسنِ والحسين رضي الله عنهما، إن من ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين هذا على عاتقه وهذا على عاتقه وهو يلثم -أي يقبل- هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا، فقال: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني).
وعند أبي يعلى من طريق عاصم بن زر عن عبد الله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فإذا قضى الصلاةَ وضعهما في حِجره، فقال: مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ هَذَيْنِ ) .
وغير ذلك من الأحاديث التي ورثها الأجداد سلوكًا عمليًا مع أحفادهم، حتى جاءت معاملتهم ندى شفافًا تترطب به الحياة القاسية، وبه يكمّل الحفيد النقص العاطفي الذي ربما وقع من أبويه بسبب انشغالهما، أو ضعف المشاعر لديهما أو أحدهما، وجملة ليست قليلةً من الأجداد يقومون بواجب الرعاية الكاملة للأحفاد حينما يكون الأبوان في حالة سفر أو عمل بعيد، أو ـ لا قدر الله ـ في حالة مرض أو وفاة، وفي مثل هذه الحالة يأخذ الجدانُ مكان الأبوين تمامًا، وهذا متقرر في الفقه الإسلامي حيث أعطى الشرعُ للجد حقَ الولاية مكان الأب في حال عدم وجوده في ولاية النكاح أو التصرف في مال القاصر أو نحو ذلك.
ومن هنا نرى كيف يهرب الأحفاد أحيانًا من قسوة الآباء إلى عطف الأجداد، يستنجدون بهما، ويحتمون بوقارهما، ويستشفعون بهما للصفح عنهم، أو طلب الإذن لهم في حاجة من حاجاتهم، في مشهد يجمع بين أبوتين اثنتين، وكلاهما يحمل معنى، الأول: معنى التربية، والثاني: العطفَ فيها، ولذا رأيت أن أضع استفتاء في حسابي على تويتر: هل ترى أنَّ تدخل الجدين في التربية تعزيز إيجابي لها؟ أو ترى أن هذا يشكل ازدواجية سلبية فيها؟ بالطبع هذه الفرصة التي يمنحني إياها تويتر، وإلا ففي المسألة تفصيل لعلي أن أشير إليه هنا، فالنتيجة جاءت
(70%) يقولون بأن دخولهما تعزيز إيجابي، و(30%) يرون أنه يشكل ازدواجية في التربية، والحقيقة أن النتيجة تعكس مدى الانسجام الأسري لدى المشاركين، وأن الجدين في بيوتهم لهما أثر كريم عليهم.
أما التفصيل فإني أرى للوالدين أثر بالغ في التربية، فتوجيههما في الغالب يلقى استجابة سريعة وقناعة من الأحفاد، لأنه في الغالب يصدر عن هدوء وأسلوب رفيق، بعيد عن الغلظة والشدة، وكلما ابتعد التوجيه عن الترهيب كلما كان أثره أبلغ وأسرع وأبقى، أما إذا رأى الوالد أن عطف الجدين زائد يصل إلى حد التدليل السلبي الذي يميل بالولد عن طريق الجد والتحصيل والاستقامة، فإن للوالد أن يوصل رسالته للجدين بكل رفق وأدب واحترام، مبينًا بعض الآثار المترتبة على هذا التعامل، ومذكرًا لهما مكانتهما في نفسه وأولاده، وبالمقابل يوصل مثل هذه الرسالة إلى أولاده، من دون تقليل من شأن توجيه الجدين، بل مع غرس لاحترامهما وتبجيلهما.
الوقفة الثالثة: إن وجود الجدة والجدة في البيت درس عملي للبر والإحسان، فالأحفاد يرون بشكل مباشر ماذا يصنع الآباء بوالديهم، يسجلون المواقف في ذاكرتهم، ويحللونها، ويوازنون بين أقوال الوالدين ـ في البِرِّ ـ وأفعالهم، وكما تدين تدان، والحكايات التي تروى في هذا الشأن كثيرة، تعيد المواقف نفسها، أو أصحابها يعيدونها !!
الوقفة الرابعة: على الوالدين ألا يتفردا ببر الجدين، بل عليهما أن يشركا أولادهما معهما في هذا الخير، ليوطنوهم على الإحسان إليهما، وحتى لا ينفروا من خدمة الكبير التي في الغالب تحتاج إلى مهارة عالية في التعامل والتمريض أيضًا، وحتى إذا صرفت الصوارفُ الأبناءَ عن برهم للجدين، كان الأحفاد قد تمرسا على ذلك، فيقومون بهذا الدور الجليل.
الوقفة الخامسة: وجود الجدة والجد في البيت، هو فرصة رائعة لنقل الخبراتِ المتوارَثةِ والمتراكمةِ عبر الأجيال، واختصارٌ لمسيرة إرثها، في تدبير الأمور، وإدارةِ الأزمات، والتعامل مع الشخصيات، والبيع والشراء، والعاداتِ والتقاليد والأعراف، فالجدان شخصيتان مرتا على ظروف متنوعة، فأكسبتهما الخبرةَ العميقة، وعلى الأولاد والأحفاد استثمارها وعدمُ التفريط فيها، ويكون ذلك بالمخالطة والمجالسة والسفر والصحبة في أزمنة وأمكنة وظروف مختلفة.
الوقفة السادسة: الجدان في المنزل صمام أمان للتمسك بالسمت والفضائل والأخلاق النبيلة، فلقد رأيت كم يهاب الأحفاد أجدادهم أكثرَ من والديهم ـ أحيانًا ـ حينما يعزمون على فعلٍ تأباه القيم، وترفضه المروءة، وهذا باب جليل القدر، لو تنبه له الوالدان فاستثمراه لفازا بثمره فوزاً عظيمًا، وهو التكامل التربوي بينهما وبين أولادهما، ولا ينقص ذلك من قدر الوالدين الأقربين مثقالُ ذرة أمام أولادهما، بل هي سلسلة عتيدة يمسك بعضها بعضًا، ترث الفضيلة أبًا عن جد.
الوقفة السابعة: الجدَّان..نور البيت، خيمة ظليلة على جميع أفراد الأسرة، بندائهما تجتمع النفوس، وبراحبة صدريهما تأتلف القلوب، يتصدران الإصلاح بين الأولاد وأحفادِهم في حال الخلاف، وبواقرهما يُربأ الصدع، وتغلق أبواب الفرقة، وتموت الفتنة في مهدها، فحياتهما امتداد للوصل، ونماء للأسرة، ولذلك يتوجب على الآباء أن يربطوا بين جيل الأجداد والأحفاد، مساندة لدور أجدادهم، بحيث ينسقوا اللقاءات الدورية الممتعة بينهم، بحيث لا يتخلف عنها إلا ذو عذر، فمشاغل الحياة لو تركناها لعبثت بنا، ولفرقتنا، وهذه اللقاءات الأسرية أثبتت نجاحها وآتت ثمرتها، وهي إرث حسن، وفكرة إيجابية كريمة.
الوقفة الثامنة: أدرك الجدان المعاصران حياة التقنية التي لفّتنا في ليلنا ونهارنا، وفي نومنا وصحونا، والأولاد هنا يجب أن يدركوا أنه لا يصح أن ننشغل بهذه التقنية في برامجها التواصلية المذهلة عن واجب الوصل لأجدادنا، وخصوصًا حينما نكون بين أيديهم، وخصوصًا ـ أيضًا ـ حينما يكونا في غربة واقعية عن تقنيتنا !! فكم يحزننا أن نرى الأحفاد ناكسوا رؤوسهم عند أجهزتهم، هم في واد والجدَّانُ في واد آخر، ثم يحسبون لأنفسهم الزيارة والبر والإحسان! لقد أعجبتني تلك الجدةَ التي وضعت سلة بجانب الباب عند الدخول عليها، وكتبت عليها: (يا بني: ضع جوالك هنا..ثم تفضل بالدخول !)، ليكون بكليته إلى محياها، فإما لي، وإلا فأنت في حلٍ من زيارتي، هكذا كأنها تقول، ولله درها من جدة مربية، وإلا فأين أدب الإنصات والإصغاءِ والقرب والإدناء، فكم دنت منك ومن أبيك وأمك! فليس حقهما عليك البعدُ والانشغالُ والهِجران.
الوقفة التاسعة: إن البيت الذي يعيش أفراده مع جدين، حتمًا سيرى أفراده كيف هي دائرة الحياة العجيبة، التي حكاها الله تعالى بقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)، يرى الحفيد كيف سيؤول إلى هذا الضعف من بعد قوته فلا يطغى بصحته وفتوته لأنه حتما إلى هذ المآل من الضعف والشكوى، فيعود المرء كما بدأ، (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ )، نعم..أفلا يعقلون، وهم يرون بأم أعينهم كيف ستدور عليهم الأيام دورتها كما دارت على هذين الجدين الحبيبين، فتجعل من بعد قوتهم ضعفًا وشيبة، ثم المآل إلى الله تعالى، فمرحلة الشيخوخة لا تعقبها إلا الآخرة، فيا لها من عظة ما بعدها عظة.
الوقفة العاشرة والأخيرة: كان الله في عون كل بيت عُمرت زواياه بالجدين الكريمين، أو بأحدهما، ثم فجأة، غاب القمر، وغربت الشمس، أي خسوف هذا الذي حصل، وأي كسوف حلّ! الذكريات، والحكايات، والابتسامات، والنظرات الحنونات، رحلت، ورحَلتْ معها القلوب، ومضت، وبقيت لنا الدعوات، فيا من ودع له جدة أو جدًا، تذكره بالاستغفار والدعاء له بالرحمة والمغفرة، وبرِ أصحابه، والتصدقِ عنه، واذكره بالخير، والعملِ بما أوصاك به من العمل الصالح، فإنَّ له مثل أجرك.
لقد رثا أخي د.محمود بن سعود الحليبي جدي ـ رحمه الله ـ بأبيات تفيض شجى، اخترت منها:
جداه..جداه..واجداه جداه وحلّقتْ عن دنايا الأرضِ عيناهُ
واستعبرتْ بالأذانِ الحرِ مئذنةٌ كانت تسامره واليومَ تنعاهُ
وأقفرَ البيتُ بعد الشيخ وانطفأتْ أنوارُ أُنسٍ تنامت في زواياه
وراح جدي، ولاحتْ للغروب يدٌ تحثو على القبر تبرًا حين واره
مات الذي إن دنا منك امتلأتَ هدىً وإن نأى أسعدتْ جنبيك ذكراهُ
حياته صفحةٌ بالخير عاطرةٌ ليهنأ الموت، مِسْكًا قد وهبناه
وراح جدي وصاحتْ في النخيل أسى فسيلةٌ كم سقتها الحبَّ كفاه
لا..لا تلمها، فراق الشيخ قاصمةٌ ما أفظعَ البين يا خلي وأقساه
فارحم إلهي فقيدًا سُلَّ من دمنا واجعل جنانَك مثوانا ومثواه([1])
أسأل الله تعالى أن يمد أعمار أجدادنا على الطاعة والصحة والعافية، وأن يعيننا على برهم والإحسان إليهم، وأن يغفر لمن توفاه الله منهم، فإن الله غفور رحيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحيه أجمعين.
([1]) القصيدة كاملة في ديوان (تقولين) لأخي د.محمود بن سعود الحليبي.