الخميس 19 سبتمبر 2024 / 16-ربيع الأول-1446

من كانت الآخرة همه



كثيرة هي المشاكل التي تحيط بنا من كل حدَب وصوب، كثيرة هي الهموم التي تحول بيننا وبين إدراك معالي الأمور، كثيرة هي المشاغل التي تصرفنا عن فعل ما نتمنى من خير، أو دفع ما نكره من سوء، وهنا تسمع الشكاية المتشابهة من الناس، وإن اختلفت وسائل الوصول إليها: الفزع والهم والغم والحزن والبحث عن الاطمئنان النفسي المفتقد! لقد حدث تباعد كبير بين الاطمئنان النفسي والهدوء الذاتي، وبين طبيعة ما نقاسي من عناء عمل وجهد وبذل وشغل، والسبب في ذلك انتقال الهمِّ من إرادة الشرع إلى شرع الإرادة، فأصبحت الدنيا هي المحرك للقلب فرَحا وحزَما، إن أصابه خير اطمئن به، وإن اصابه سوء جزع واضطرب!

لقد أضحت الهموم مقصورة عند قطاع من المسلمين على دنيا لا دين، وعند البعض على الأمرين، حيث شاركت هموم آخرته هموم دنياه لكن غلبت عليه الدنيا، فاتبع معها هواه!! مع أن الناظر في القرآن يدرك أن الله جعل التوازن بين الدارين مائلاً إلى الآخرة؛ قال تعالى: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا” فجعل المبتغى الحقيقي والأصلي هو في طلب الآخرة، فقدمها وجعلها الهمَّ الأكبر، حتى يكون لها العمل الأكثر، وجعل الدنيا تالية لها رتبة لا عملاً، فقال: “وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا”،

نعم!! إن العمل في الدنيا أمر مطلوب شرعاَ، والاجتهاد في الوصول إلى علوم الغايات الدنيوية، حتى يمتلك المسلم دنياه أمر واجب عليه وصاحبه مأجور على ذلك، بَيْدَ أن الفارق أن هذا العمل منضوٍ تحت الهم الأول، يعمل لدنياه من أجل رفعة دينه، همه الأكبر والأساسي آخرته والبحث عن مرضاة الله عز وجل، وهذا هو التوازن المراد بين العمل لأجل الآخرة والعمل للدنيا، ولعل في حديث سلمان مع أبي الدرداء ما يؤكد المعنى؛ فعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدَّرْداء، فرأى أمَّ الدَّرْداء مُتَبَذِّلَةً، فقال لها: ما شأنُك؟ فقالتْ: أخوكَ أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنعَ له طعامًا، فقال له: كُلْ، فإني صائمٌ، قال: ما أنا بآكل حتى تأكُلَ، فأكل، فلما كان الليلُ ذهب أبو الدرداء يقومُ، فقال: نم، فنام، ثمَّ ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال: سلمانُ: قُم الآن، فصلَّيَا، فقال له سلمانُ: إنَّ لربِّكَ عليك حقًّا، وإنَّ لِنَفسكَ عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرَ ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “صَدَقَ سلمانُ”.

هذا هو التوازن الذي ترتفع به أمة الحق، وتعلوا بها رايتها، ويحدث به الأمن الغائب عن كثير من الناس؛ الأمن النفسي والسكينة والاطمئنان، ولن يجدها المسلم إلا في دينه، وهذا الحديث يوضح جلياً هذا المعنى، قال عليه الصلاة والسلام: “من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له”. هذا هو التوصيف الحقيقي لما آل إليه حال بعضنا، وهذا هو الدواء الصحيح لمن يريد الأمان النفسي والاطمئنان الذاتي.

اجعل قصدك وهمك رضا الله يجعل الله غناك في قلبك، فيرزقك القناعة بما أتاك، ويبارك لك في القليل منه، وساعتها سيجمع الله شملك، ويجعل قلبك هادئاً، ونفسك ساكنة، وعيشك هنيئاً، ويدخل السرور عليك. أما الآخر الذي كانت الدنيا همه فيكفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: “جعل الله فقره بين عينيه” أي جعله يحتاج إلى الخلق، فلا يشعر بالقناعة أبداً.. دائماً يلهث خلف كل داعٍ، ويجري وراء كل زاعق، ويعيش في كد وألم ومعاناة.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم