إنّ الإنسان مكوّن من مجموعة غرائز وميول كغريزة الطمع والخوف وحب الذات والجنس والجوع والعطش إلى غير ذلك من الغرائز الكثيرة الموجودة في الإنسان والتي تتحكّم في سلوكه وتصرفاته.. وربما أنّها غرائز موجودة عند الإنسان فلا يستطيع هو أن يكبتها وذلك لأنها جزء من كيانه وحياته.. فلابدّ للإنسان من أن يستثمرها في حياته على الوجه الصحيح وبصورة معقولة.. وهنا تأتي فائدة الصوم ووظيفته، فإنّ وظيفة الصوم هي تحديد وضبط تصرفات هذه الغرائز لكي لا تنحرف عن الطريق المستقيم الذي رسمه الإسلام لها.. فالصوم إذن هو رقابة داخلية تقوم بعملية تنظيم هذه الغرائز.
الفوائد النفسية في الصوم:
1- النظام والإلتزام بالقيود: إنّ من أهم آثار الصوم النفسية، التطبّع على النظام.. فإنّ الإنسان بطبيعته يميل إلى عدم الالتزام بالقيود والنظام، الإمساك والإفطار مثلاً، لا مناص من الخضوع له، سواء رضي.. أو أبى.. أو كره.. ويتساوى في هذا النظام العام بالنسبة للصائمين، الفقير والغني والرئيس والمرؤوس والقوي والضعيف ولا فرق لأحدٍ على الآخر.. وذلك مما يكوّن عند الإنسان مَلَكَة التطبّع على النظام والالتزام بالقيود.
2- الصوم والصبر: فإنّ من أهم آثار الصوم النفسية، هو تعوّد الإنسان وتطبّعه على الصبر وترك اللذات بجميع أشكالها باختيار وتطوّع.
“رمضان شهر الصبر وإنّ الصبر ثوابه الجنّة”.
فإنّ الصوم هو التزام عملي بالإنفصال لفترة طويلة نسبياً عن ألصق العادات في حياة الإنسان من طعام وشراب ومتعة.. ويُمثّل تمريناً عملياً للنفس على الصبر يفعمها بأحاسيس ومشاعر بليغة الأثر في ذلك فإنّه لو توفّر للفرد منا أن يفهم فريضة الصوم في ظرفها الذي وضعها فيه الإسلام، وتوفّر له وهو يؤديها أن يحسَّ بعقله وقلبه عمقها وأبعادها لأفادَ منها عطاء من الصبر، فهماً في ترقية نفسه وفكره، وبالتالي في تطوير شخصيته وإحكام بنائها.. وحَسْبُ الإنسان بعض ما في الصوم ليتعلّم الصبر الجميل، حَسْبُه أن يحسَّ أنّه يتربى على يد الله، ويُصنع على عينه، لحَمْلِ رسالته وبلوغ أهدافه.. وأنّه لو توفّر لأُمّتنا أن تَعِيَ هذه الفريضة المباركة وأن تعيشها بحيوية وهي تؤديها لأفادت منها لوجودها، أكبر المقوّمات وأمضى أسباب النصر.
إنّ فرْقاً كبيراً بين ما عليه أمّتنا اليوم من وضعها الفكري والنفسي ووضعها في جميع جوانب وجودها وشخصيتها وأهدافها ومكانتها في أمم العالم، وبين وضعها الذي تضمنه لها رسالة الإسلام وفرائضها فيما لو وعتها وعاشتها.
إنّه بحَسْبِ أمّتنا التي هَوّنت من شأن عقيدة الإسلام وفرائضه في قضاياها المصيرية.. بِحَسْبها شهر من صيام تعيش فيه وجودها المضاع، ورسالتها الملقاة، وأهدافها المنسية.. بِحَسْبها حفنة من الصبر الجميل تُزوّدها بصمود يدفعها للكفاح، وبوعي يكشف لعينها تعهّد الله ونصره، واطمئنان يُذهب عنها قلق الحاضر وخوف المستقبل.. إنّ أمّةً تؤدي فريضة الصيام وتعيشها بعناصرها المتقدمة لَهِيَ أمّة لا تذلُّ ولا تقهر.. فكيف تذلُّ أو تقهر أمّةٌ تحسُّ في صومها بأنّها تتربى على يد الله وتُصنع على عينه لتحملَ رسالته الخالدة في أرضه؟.. وكيف تذلُّ أو تقهر أمّة تحسُّ بأنها وارثة الأمم المسلمة التي ربّاها الله وحمّلها منهجه، وأنّها تربطها مع الله – تعالى – رابطة خليفة بمستخلَف، ومُكلِّف بمُكلَّف.. وإنّها وهي تتدرب على الجوع والظمأ تختصُّ بضيافة الله ومزيدٍ من رحمته ونصره وهداه.. وإنّها بصومها تتربى على احتياجات وجودها المستقبلية، احتياجات وجودها على الأرض، واحتياجات وجودها فيما بعد على هذه الأرض؟.. وكيف تذلُّ أو تقهر أمّةٌ تعيش التقوى في خط رسالة الله – تعالى – والقيام على العدالة في أرضه.
3- الصوم وتقوية الإرادة: الواقع أنّ الإرادة ليست بالشيء البسيط واليسير، بل هي من الأمور التي يتمكن منها الإنسان مع صعوبة المنال.. ومن حِكَم الصوم تقوية الإرادة، ذلك عندما يشعر الصائم بالجوع والعطش، ويرى أمامه ألوان الطعام والشراب وتحت تصرّفه ونفوذه ولكنه يمتنع من استعمالها عن إرادته، فتحصل حينئذٍ لديه إرادة قوية تُعوّده على النظام وتُقوّي عزمه وإرادته.. وقد وضَعَ الألماني الاستاذ (جيهاردت) كتاباً في تقوية الإرادة جعل أساسه الصوم.. وذهب فيه إلى أنّ الصوم هو الوسيلة الفعالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد، فيعيش الإنسان مالكاً زمام نفسه، لا أسير ميوله المادية.
الفوائد الاجتماعية في الصوم:
1- الصوم والشعور بالمساواة: إنّ الصوم يجعل الإحساس واحداً بين الفقير والغني والكبير والصغير والعالم والجاهل.. وهو التحسس بألم الجوع والعطش حتى يشعر الغني بألم الجوع وصعوبة العطش، فيحنو حينئذٍ لا شعورياً على الفقراء والمساكين..
2- الصوم والأمانة: إنّ الصائم تمرُّ عليه أوقات كثيرة يخلو فيها بنفسه ليس عليه رقيب إلّا الله – سبحانه وتعالى – ولكنه يتقيّد من تناول المفطرات ويؤدي الفريضة كاملة كما أمر بها الله – تعالى – وهذا ما ينشئ أو يُقوي في نفس الصائم مَلَكَة المراقبة الخالقه وهو الله سبحانه وتعالى.
وكذلك كما في الصائم عندما يشعر بعدم وجود رقيب عليه غير الله – سبحانه وتعالى – يكون أميناً على فرضه، وذلك مما يوجِد في نفس الصائم مَلَكَة الأمانة.
الأهداف الاجتماعية في الصوم
للشريعة أهداف اجتماعية لابدّ أن تحقق في كلِّ مجتمع من المجتمعات المستقرة كالأسرة، وهي المجتمع الصغير والمجتمع الكبير في الأُمّة الواحدة أو في الأسرة الإنسانية كلّها.. وإنّ الشريعة الإسلامية تتجه في كلِّ أحكامها إلى تحقيق هذه الأهداف الاجتماعية، وهي المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، فقد جاءت لتكوين مجتمعٍ فاضلٍ يضمُّ الأسرة الإنسانية كلّها، قاصيها ودانيها، وابتدأت فاتجهت إلى تربية المسلم ليكون عضواً في المجتمع، والعبادات الإسلامية والفضائل التي دعا إليها الإسلام تتجه نحو تحقيق هذه الأهداف وتوجيهه إليها.
فالعبادات شُرّعت لتهذيب النفوس، وتربية روح المساواة، وروح الاجتماع الذي لا اعتداء فيه، وإذا كانت العبادة لا تحقق تلك الأهداف، فهي ليست عبادة ولا يقبلها الله – سبحانه وتعالى – الصوم مُهذّب للنفوس ورافع لها من مستوى المادة الضيق إلى مستوى الروح والروحانية الواسع الرحب، الذي إذا طُبّق حقّ التطبيق، فإنّ الإنسان لو صام وأكلَ مال الغير أو اغتاب أو غير ذلك، فلا صوم له..
الصوم في جانبه الباطني والظاهري:
الجانب الباطني في الصوم:
إنّ الصائم حينما يصوم فهو بطبيعة الحال ينفتح لمتطلبات الروح وحاجات النفس.. فإنّ الإنسان حينما يُعرِض عن متطلبات الجسد لا يعود الجسم يأخذ جلّ اهتمامه، ولا يكون الجسد مضايقاً لجانبه الروحي من شخصيته أو كيانه.. ومن أجل تنمية انفتاح الإنسان لروحه ونفسه وما تحتاجها من أعمال فُرِض الصيام وشُرّع بالامتناع عن الأكل والشرب، لأنّهما من أهم متطلبات الجسد.
فإنّ الصوم في مظهره المعنوي هو الامتناع عن فعل وارتكاب أي عمل يُنافي الشرع والإيمان، ولا ينسجم ولا يتلاءم مع التقوى والفضيلة والنية الخالصة، فالشخص الذي يتجه إلى غير الله بالقصد والرجاء، لا صوم له.. والذي يفكر في الخطايا ويشتغل بتدبير الفتن والمكائد ويحارب الله ورسوله في جماعة المؤمنين، لا صوم له.. والذي يطوي قلبه على الحقد والحسد والبغض بجمع الموحدين، والعمل على تفريقهم وإضعاف سلطانهم، لا صوم له.. والذي يُحابي الظالمين ويُجامل السفهاء ويعاون المفسدين، لا صوم له.. والذي يستغل مصالح المسلمين العامة ويستعين بما لله على مصالحه الشخصية ورغباته وشهواته، لا صوم له.. وكذلك من يمد يده أو لسانه أو جارحة من جوارحه بالإيذاء لعباد الله أو إلى انتهاك حرمات الله، لا صوم له.
فالصائم ملاك في صورة إنسان.. لا يكذب، ولا يرتاب، ولا يشي، ولا يُدبّر في اغتيال أو سوء، ولا يُخادع، ولا يأكل أموال الناس بالباطل.. هذا هو معنى الصوم الذي يجمع في صورته، المادية وهي الإمساك عن المفطرات.. والمعنوية وهي تقوية روح الإيمان بالمراقبة.. وبهذا يجمع الصائم بصومه بين تخلية نفسه وتطهيرها من المندسات وتمليتها وتزكيتها بالطيبات..
“فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تُماروا ولا تكذبوا ولا تباشروا ولا تخالفوا ولا تغاضبوا ولا تسابّوا ولا تشاتموا ولا تنابزوا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة والزموا الصمت والسكوت والحلم والصبر والصدق ومجانبة أهل الشر واجتنبوا قول الزور والكذب والافتراء والخصومة وظن السوء والغيبة والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة منتظرين لأيامكم، منتظرين لما وعدكم الله، متزودين للقاء الله، وعليكم بالسكينة والوقار والخشوع والخضوع وذُلِّ العبد الخائف من مولاه راجين خائفين راغبين راهبين قد طهّرتم القلوب من العيوب وتقدست سرائركم من الخبث ونظّفتم الجسم من القاذورات”.
الجانب السلبي في الصوم:
وهذا هو الجانب البارز والواضح من شريعة الصوم فهو كما يقول الفقهاء: الامتناع عن الأكل والشرب والمباشرة الجنسية وعن استعمال بقية المفطرات الأخرى.. وهذا الجانب السلبي يُمثّل لوناً من الانقطاع عن أهم حاجات الجسد وهما الأكل والشرب.
ومما لا شكّ فيه، أنّ حاجات الجسد تأخذ المكان الرئيسي أو المحور في حياة الإنسان فهو يعمل من أجل أن يأكل ويأخذ قسطاً من الراحة ليقوى على مباشرة العمل من جديد وهكذا.. وإنّ مثل هذا الشعور والإحساس مما يُضايق الإنسان كثيراً أو يجعله يشعر في دخيلة نفسه أنّه كالبهيمة المربوطة همّها عَلَفها.
وإنّ هذا الجانب السلبي في الصوم لا يعني إطلاق التنكير لحاجات الجسد لأنّه امتناع وقتي عن هذه الحاجات ولا يستلزم منه الكبت، حتى تظهر ظاهرة الكبت في نفوس الصائمين كما يتوهم البعض، فلا يعود الأمر أكثر من تحديد مؤقت لحاجات الجسد ومطالبه. ►
المصدر: كتاب في رحاب الصيام
|