الذوق والاتكيت كلمة نتداولها في أدبياتنا، وكثير ما نحصرها في مسألة المأكولات أو الملبوسات في الغالب، أو في المدرك البصري من جمال الطبيعة فقط فتبقى الذوقيات لذلك محصورة في أمور محددة، مع العلم أنها تتعدى لمفهوم أوسع من ذلك وأكبر، فمسألة الذوقيات لها صلة كبرى بكل الحواس، فنهاك ذوقيات اللمس في استشعار ما هو لين أو يابس أو ناعم أو خشن، وذوقيات السمع فهناك نغم يطرب، وآخر يفزع، وثالث ينفر، وذوقيات الشم تميز لنا ببن الرائحة الطيبة والخبيثة، وهكذا بقية الحواس، ولكن تبقى الحاسة السادسة هي أهمها وأخطرها وهي الشعور الداخلي النفسي أو القلبي أو العقلي الذي يشعر بالجمال من حوله في كل لفظة أو صورة أو سكنة أو حركة، وهو ما يسمى عند بعضهم بسلوك الروح والمشاعر، فعندما تحدث المولى سبحانه عن نعمة الأنعام قال:
( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) وتلك التي قد يتفاوت فيها الناس ويختلفون بين ناس ذوقياتهم عالية وملاحظاتهم دقيقة، ونفسياتهم شفافة وناس جفاة غلاظ الأفئدة تصاحبهم رعونة في الحديث وجفاف في المشاعر وخشونة في التصرفات وفريق ثالث متأرجح بين الطرفين ولعل الذين حازوا الشعور الذوقي الرفيع واتصفوا به هم ممن امتن الله عليهم بفضله لعبادة أخلصوا فيها وواجبات وحقوق أدوها، وأخلاق وآداب راعوها، وأما الذين عاشوا وفق أذواق الآخرين وأهوائهم، وجاملوا ابتغاء رضى الناس فما حصدوا شيئا إلا قدحا وذما يقول أحدهم :
ضحكت فقالوا ألا تحتشم
بكيت فقالوا ألا تبتســـــم
بسمت فقالوا يرائي بهــا
عبست فقالوا بدا ما كتــم
صمت فقالوا كليل اللسان
نطقت فقالوا كثير الكــــلم
حلمت فقالوا صنيع الجبان
ولو كان مقتدرا لانتقــــــم
بسلت فقالوا لطيش بـــــه
وما كان مجترئا لو حــكم
يقولون شذ وان قلــت لا
وإمعة حين وافقتهــــــــم
فأيقنت أني مهمـــــــا أرد
رضا الناس لابد من أن أذم ..
إن حاجتنا للحديث حول هذا الموضوع ماسة وخاصة مع بعض جيلنا المنبهر بحضارة الغرب غثها وسمينها؛ فلا بد من ردهم لعظمة دينهم وروعة أحكامه وآدابه ردا جميلا .. وتأتي الحاجة لكون هذه الذوقيات مطلبا شرعيا أولا أمر بها الله في محكم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهما المصدران الأساسيان لهذا الفن في التعامل، فالله عز وجل يأمرنا بتزكية أنفسنا بالحق ويحذرنا من تدنيسها بالباطل ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )، وفي التعامل مع الآخرين أرشدنا بقوله ( وقولوا للناس حسنا )، وفي مظهرنا الخارجي أمرنا بقوله: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد )، وكان إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو يمثل دور الابن المومن يقول لأبيه في مواقف متعددة داعيا له للهدى والخير ومشفقا عليه: ( يا أبت )،
وكان نوح عليه الصلاة والسلام وهو يمثل دور الأب المؤمن ينادي ابنه داعيا له للنجاة ومشفقا عليه: ( يا بني ) .. ويوسف عليه الصلاة والسلام حوى الجمال في شكله وعفته، وأيوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ في جمال صبره وقوة عزيمته، ولقمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ في دقة مواعظة وسعة حكمته، وهكذا الأنبياء كلهم، بل لو ذهبنا نستقصي ذلك في كتاب الله فلن نستطع حصر تلك الذوقيات، فنجده مثلا في وصف الجنة وأهلها يقول: ( وسقاهم ربهم شربا طهورا )، والتنفير من النار وأهلها يقول: ( لا يذقون فيها بردا ولا شرابا )، وكل من يدعي أن ديننا لم يعنَ بهذا النوع من التعامل ويعد ذلك من المبالغة نرد عليه بقوله تعالى: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق )، فكان لزاما على من يريد الاستزادة من هذا الفن أن يلجأ لكتاب الله يوميا يتلوه ويتدبر آياته ويطبق أخلاقه؛ فيصبح قرآنا يمشي على الأرض …
وأما سنة رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته فتزخر بكثير من الجماليات في مدلولاتها وأحداثها ومواقفها، فعلمتنا الآداب في شتى شؤون حياتنا وتعاملنا، ودلتنا على النظافة والطهارة في قلوبنا وألستنا وأسناننا وأبداننا وبيئتنا، فجعلت من ( إماطة الأذى عن الطريق صدقة )، ولو كان ذلك الأذى شوكة، وأراد منا حبيبنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نكون شامة بين الأمم، ونتميز عن اليهود والنصارى وأهل الزيغ والفساد في عباداتنا وأخلاقنا وبيوتنا وملابسنا، فعندما سئل عليه الصلاة والسلام أن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسن ونعله حسن أجاب عليه الصلاة والسلام: ( إن الله جميل يحب الجمال )، والأحاديث ومواقف السيرة التي تعنى بهذا الجانب لا يمكن أن تعد أو تحد .. وكوننا في حاجة لهذا الفن في التعامل لأنه من الأمور التي قد تخفى على الكثير ولا تتذكرإلا بعد فوات الأوان؛ لذا كان من الأفضل على المرء أن يتخذ له صاحبا صادقا ذو ذوق عالي، يقتدي به ويرشده ويبين له عيوبه ونواقصه ..
ومن أسباب الاحتياج لهذا الفن كونه فرصة لتكوين العلاقات الطيبة مع الناس وكسب مودتهم وأخلاقهم الراقية، وكذلك هو يعين على تجاوز المشكلات والخلافات، ففي الغالب ليس الذي يحل المشكلات عند خلافاتنا الزوجية والأسرية والاجتماعية هو المخطئ واعتذاره، بل الذي يحلها هو الإنسان ( الأعقل ) ذو الخلق الرقيق والذوق الرفيع، ولو كان هو المخطأ عليه ..
ومن مصادر الذوق كثرة التفكر والتأمل في الكون المنظور، وما خلق الله فيه من طبيعة خلابة أشجار ذات بهجة وزينة وأشجار ذات ثمار، وما حولها من حيوانات وأطيار وتراب ورمال وأحجار وصخور وجبال وجداول وأنهار، وبحار وما فيها من أسماك أشكال وألوان، فالقيام برحلات سياحة واستطلاعية لهذه العوالم مما يرفع الحاسة الذوقية، ولا تجعل إلا من المسلم الذي يتأمل فيها إلا أن يردد مع الشاعر: ( وله في كل شيء آية … تدل على أنه الواحد )
ومما يوصي به أخيرا هو: أنه ينبغي البحث عن هذه الذوقيات للتطبيق المباشر، والتحلي الشخصي بها، لا للعلم فقط أو الحكم بها على أقوال الناس وأفعالهم .. وختاما نجد أن من الذوق أن نحترم ونقدر كل ذي ذوق راقٍ سامٍ، وندعو له بقولنا: رفع الله شأن كل من له ذوق وأدب، وإن كانوا من سبقونا قالوا : قبح الله من لا أدب له .