الأحد 24 نوفمبر 2024 / 22-جمادى الأولى-1446

عش همَّ الصراط



إذا قامت القيامة، وحشر الله الخلائق، ووقفوا بين يديه سبحانه وتعالى، فهناك يلاقي العباد شيئاً عظيماً وكرباً شديداً, أهوال وكروب، شدائد وخطوب، ولن ينجو من تلك الأهوال إلا من أعدَّ لذلك اليوم عدته بالإيمان والعمل الصالح، وفي ختام ذلك اليوم يساق العباد إلى دار القرار: إما إلى الجنة وإما إلى النار. نسأله تعالى أن يجعلنا جميعاً من أهل الجنة وأن يعيذنا من النار.

وقبل دخول إحدى الدارين, يمر الناس بهول عظيم، وعقبة كؤود، إنها عقبة المرور على الصراط، عقبة لا مفر من ولوجها، ولا مناص من المرور عليها، أقسم الرب جل جلاله أن يورد عباده عليها، فقال عز من قائل: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) فورود المسلمين للنار يكون بالمرور على الصراط الذي بين ظهرانيها، وورود المشركين يكون بالدخول فيها.

 

 

إن الصراط جسر ممدود على متن جهنم، أحدُّ من السيف وأدقّ من الشعرة، طريق موحش مليء بالظلمة، تزل فيه الأقدام، على حافتيه خطاطيف وكلاليب من نار معلقة، يجتازه كل الناس، نعم..كل الناس, كل فرد سيمر عليه، فإما أن يكمل العبور بيسر وسهولة، وإما يعبره بمشقة وصعوبة، وإما أن ينتكس ويسقط! أعاذنا الله وإياكم من النار!…روى سلمان الفارسي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “…. ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من يجوز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي. فيقولون: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك!” حديث صحيح .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “…. ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم”، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: “مدحضة مزلة”، أي: طريق زلق تنزلق فيه الأقدام، “عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء تكون بنجد, يقال لها السعدان” رواه البخاري.

 

الأمم جميعاً ستكون على هذا الصراط يوم تبدل الأرض والسموات، فيا لله! كيف يكونون على صراط أحد من السيف وأدق من الشعرة؟ سبحانك ربنا ما أعظمك!.

تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)، فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال:”على الصراط” رواه مسلم.

 

إن هذه الأحاديث الشريفة المنيفة توضح لنا جلياً, أن نصب الصراط يعد كرباً من الكرب العظيمة يوم القيامة, تستوجب علينا جميعاً الحرصَ على الأعمال الصالحة التي تنجينا منه؛ فالمؤمن لن يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه.

 

 

بل إن من هول الصراط وشدته, يأتي حبيبنا صلى الله عليه وسلم بنفسه، ليحضر هذا الموقف رحمة منه وشفقة بأمته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ” سألت النبي صلى الله عليه وسلم, أن يشفع لي يوم القيامة فقال: “أنا فاعل”، قلت: يا رسول الله، فأين أطلبك؟ قال: “اطلبني أول ما تطلبني على الصراط”، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟، قال: “فاطلبني عند الميزان”، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: “فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن” رواه الترمذي وصححه الألباني.

 

ومن شدة هول الصراط أنه لا يتكلم عند إجازته إلا الرسل, داعين الله تعالى بالسلامة لمن عبره من أتباعهم، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكون أولَ من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذٍ: اللهم سلم سلم” متفق عليه.

إن المارين على الصراط ينقسمون أربعة أصناف: فمنهم: من يمر عليه سريعاً كالبرق فينجو منه، ومنهم : من تخدشه كلاليب الصراط أو تقطّع لحمه ثم ينجو، ومنهم: من يحبس على الصراط فيعاني الشيء العظيم من لفح جهنم, وألوان الخوف والرعب الذي تنخلع له الأفئدة حتى ينجو، ومنهم: من يوبقه عمله فيسقط في النار والعياذ بالله.

يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “يوضع الصراط بين ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان، ثم يستجيز الناس، فناج مسلّم، ومخدوج به ثم ناج، ومحتبس به، ومنكوس فيها ” رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

 

 

وأول من يجوز الصراطَ من الأمم أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكرامتها عند الله، وأول من يجوز من هذه الأمة هو سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم ولا فخر, روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والأنبياء بجنبتي الصراط، وأكثر قولهم: اللهم سلم سلم، فأكون أنا وأمتي أول من يمر، أو قال: أول من يجيز” السنة لابن أبي عاصم.

وأول من يجوز من هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هم فقراء المهاجرين، رواه مسلم.

 

وآخر الناس مروراً على الصراط هو الذي يمشي مرة ويكبو مرة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك؛ لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين” رواه مسلم.

 

 

اعلم أخي الكريم أن مرورنا على الصراط يكون على قدر أعمالنا الصالحة في هذه الدنيا، إذ هي التي ستحدد مقدار سرعتنا عليه، يبين لنا حبيبنا صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:(فيجوز المؤمن كالطرْف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل وكالراكب ..ومنهم من يسحب سحباً), فالرجل الذي يأتي يوم القيامة على الصراط لا يستطيع السير إلا زحفاً، إنما كان بسبب قلة صلاحه وضياعه لوقته، وعدم مسابقته في الدنيا إلى الخيرات.

فتباطؤه في الدنيا عن الأعمال الصالحة, جعله يتأخر في المرور على الصراط، إذ لن ينفعه يومئذ نسبه ولا حسبه, ولا شهرته ولا منصبه.

أبعد هذا يظل أحدنا مجترئاً على تضييع وقته وتسويف توبته، وتضييعه لأوامر ربه, وأمامه عقبات وكرب وأهوال؛ لا يكون الخلاص منها إلا بالرجوع إلى الله, والإكثار من الصالحات، والاستغفار من الذنوب والخطيئات!

 

 

إخوتي الكرام: تأملوا حرص الناس في أسفارهم على وسائل النقل السريعة، ولو أدَّى ببعضهم إلى دفع مبالغ باهظة، فترى أحدهم يفضل السفر إلى البلد البعيد بالطائرة رغم ارتفاع تذكرتها، من أجل الوصول إلى بغيته بأسرع ما يمكن، لكيلا يصيبه وعثاء السفر. أليس أولى بالمسلم الصادق أن يجاهد نفسه في الدنيا على الإكثار من الأعمال الصالحة, كي يجتاز هذا الصراط بأسرع ما يمكن؟ .

 

إذا مُدَّ الصراطُ على جحيمٍ *** تصولُ على العُصَاةِ وتَسْتَطِيلُ

فقَوْمٌ في الجحيم لهم ثُبُورٌ *** وقومٌ في الجِنَان لهم مَقِيل

وبان الحقُّ وانكشف الْمُغَطَّى *** وطال الويلُ واتَّصَلَ العويل

 

 

تفكر الآن أيها المسلم فيما يمر بك من الفزع يوم القيامة, إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعَك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني، والخلائق بين يديك يزلون ويعثرون، وأنت تنظر إليهم كيف يُنكَّسون, فيا له من منظرٍ ما أفظعه! ومُرْتَقَىً ما أصعبه!” التذكرة للقرطبي.

 

إن مما يزيد من هول الصراط وكربته, تلك الظلمة المطبقة عليه، لا يستطيع أحد الرؤية إلا من آتاه الله نوراً يهتدي به في تلك الظلمات.

هذا النور يعطيه الله للمؤمنين، كل مؤمن على قدر عمله وإيمانه, ليبصر به في ذلك الظلام الدامس، ويعطيه أيضاً للمنافقين مكراً بهم، فبينما هم يمشون على الصراط إذ ذهب ذلك النور، وأما الكافر فإنه يمشي في ظلام بهيم لا يعطى من النور شيئاً.

 

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ).

يؤتى المؤمنون هذا النور على قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من إبهامه، يتَّقدُ مرة ويطفئ مرة” رواه الحاكم

إن سبيلنا للنجاة من هول هذا الكرب: التقرب إلى الله بكل ما يحبه ويرضاه، وتجنب كل ما يسخطه ويأباه.

ومن فرّط في ذلك، ندم أشد الندم، ولات ساعة مندم .

لقد كان أسلافنا يعيشون همَّ هذا الصراط، ويجعلونه نصب أعينهم في كل تصرفاتهم، فزكت نفوسهم، وقلت ذنوبهم، وكثرت حسناتهم. فهل ياترى نحذو حذوهم؟.

 

أَبَتْ نفسي تتوبُ فما احتيالي *** إذا برز العباد لذي الجلالِ

وقاموا من قُبورهم سُكَارَى *** بأوزارٍ كأمثالِ الجبال

وقد نُصِبَ الصِّراطُ لكي يجوزوا *** فمنهم من يكبُّ على الشّمال

ومنهم من يسيرُ لدارِ عَدْنٍ *** تلقَّاهُ العرائسُ بالغوالي

يقول له الْمُهَيْمِنُ يا وَلِيِّي *** غَفَرْتُ لك الذنوب فلا تبالي

 

 

اللهم اجعلنا ممن يمر على الصراط كالبرق يا رب العالمين. توفنا على الإيمان والتوحيد، وأعذنا من الكفر والشرك والتنديد

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم