في كلّ طفل شيء من الجاذبية لا تقاوم. مغناطيس من السحر يجذب الكبار إلى الصغار.
وهذا المولود الذي لم يبلغ الشهر الثالث بعد يمتلك قوة غير مرئية تدفع أي إنسان ناضج إلى احتضانه واللعب معه.
وحتى هؤلاء الكبار المعروفون بالجمود وعدم الانفعال تجذبهم عيون الطفل الواسعة وابتسامته الصاخبة فيتكسر قناع الجمود ويعلو الانفعال وجوه هؤلاء الجامدين فيبتسمون لهذا الطفل الوليد.
فما الذي يجعل الفطرة الأولى للطفل مانحة للحب وجاذبة له؟
إنّ السماء تلح علينا بأن نفهم الهدف من هذه الحياة كلها عندما يتكرر أمامنا الدرس اليومي، أعني ولادة الطفل ثمّ نموه إلى أن يصل إلى الشهر الثالث فتطل ابتسامته على كلّ من حوله وتجذب عيناه كلّ من يراه. السماء تقول لنا إنّ الهدف من الوجود على هذه الأرض هو أن يحب بعضنا بعضاً.
إنّ إنساناً ينشأ على قيمة الحب هو إنسان يضع كلّ شيء في مكانه الصحيح. إنّه يختار شريكة عمره على أساس من التواصل العاطفي والعقلي وحيوية التقدير الجنسي بين الاثنين. بل إنّ الانسجام بين الرجل والمرأة في المجتمع المحب يصل إلى درجة رائعة بإمكاننا أن نتخيلها، ذلك أنّ البشرية لم تصل حتى الآن إلى المجتمع المحب الكامل. إننا نكتشف في علاقة الحب المستمرة والعميقة بين الرجل والمرأة الآلاف من الأفعال التلقائية التي تنبع من خيال المرأة فيستجيب لها الرجل، أو تنبع من خيال الرجل فتستجيب لها المرأة. ونحن نرى أنّ الزواج المبني على الحب يرسي أسس السعادة بثبات، وكما قلنا من قبل ينشئ أطفالاً أكثر سعادة وانفتاحاً على العالم. إن هناك أمواجاً من الحب تحيط بالرجل والمرأة والطفل، والأطفال الذين جاءوا من علاقة حب يقوون الروابط الروحية والمادية بين الأب والأُم.
وغريب أمر الحب في هذه الحياة، فلا أحد يشبع منه، وكلّ من يحصل عليه يشع بدفئه وصفاته على من حوله.
ولكن هناك وجهاً سلبياً للحب، إنّه التسلط. فعندما يكون أحد الزوجين متسلطاً فهو يفرض جبروته على الطرف الآخر ويعتقد كلّ قرين أنّ الطرف الآخر يحب الأطفال أكثر منه.
وكثيراً ما نسمع كلمة قاتلة للحب في نفوس الأبناء، الكلمة التي تأتي على لسان المرأة مثلاً فتقول: “إنني أعيش مع زوجي الديكتاتور من أجل الأطفال”. إنّ الأطفال قد لا يسمعون هذه العبارة من أمهم ولكنها تنتشر بسرعة في العلاقة بين الأبناء من جهة وبين الأب والأُم من جهة ثانية. إنّ الأطفال يبدؤون في تلك الحالة رحلة الانتقام والضجيج والالتواء والسلوك المزعج. وكذلك يسبب الأطفال هذا الضجيج وينشأ فيهم ذلك الالتواء عندما يقول الأب كلمات من مثل: “إنني أتحمل الحياة مع هذه المرأة من أجل الأطفال”. إنّ الأبناء يحبون أن يعيش الأب والأُم معاً في حالة حب وأن تستمر العلاقة بينهما قوية ومتينة، كما يفضلون أن تكون علاقتهم بالكبار على أساس من الحب والتعاون، ويتخوفون من أن تتحول الكراهية – كراهية أحد الزوجين للآخر – إلى ثقل على أكتاف الأبناء.
وعندما تكون العلاقة مفعمة بالتنافر بين الزوج والزوجة فلنا أن نتوقع أطفالاً غير مبالين إلى الصداقة مع غيرهم، وأن نتوقع كباراً ينظرون إلى العالم نظرة عدم ثقة، وأن نرى ألواناً من السلوك تثير الخصومة والتنافر، وأن نرى أشخاصاً يتميزون بالبخل أو المكر، وأن نسمع في عيادات الطب النفسي عن آلام هؤلاء وعن اشتهاء كلّ منهم، إلى حد الجنون، أن يحب أحداً وأن يجد من يحبه.
وهكذا نجد أنّ الطفل الصغير يختبئ عملياً داخل جسد الكبير. نعم، فكل منّا يحمل طفولته داخله. وهذا الطفل الصغير يسعى إلى نيل الحب.
وكلّ طفل يحب أن يكون محبوباً ومحباً، وإلا فإنّ الطفل سيلجأ إلى إزعاج من حوله لتنبيههم لحاجته إلى الحب.
وجرس الإنذار بضرورة الحب يدق عندما يأتي الأب المرهق من عمله ويتجه إلى سرير الطفل ذي التسعة أسابيع ليناديه فيبتسم له، وعندما يبلغ طفله الشهر الخامس من عمره فيرى السعادة على ملامح الوليد من مجرد مخاطبته. وكلما كبر الأطفال زادت العوامل التي تؤثر في قدرتهم على منح الحب وتلقيه.
وهناك فوارق بين طفل وأخر. وهناك الطفل المتفتح على العالم، وهناك الطفل الحساس بالفطرة.
وإن لنا أن نعرف الأساس الهام الذي نكرره دائماً وهو أنّ الطفل يفتح عينيه منذ الشهر السادس ويبدأ بامتصاص صورة العالم الذي سوف يحيا فيه، حتى إذا كان الأب والاُم ممتلئين بالعاطفة تفجرت في الطفل طاقة الحب لكل الناس إلى درجة يفترض فيها الطفل أن كلّ الناس في هذا العالم من نفس طراز أمه وأبيه تربط بينهم الصداقة والحنان والألفة.
لذلك فكثيراً ما أقول للآباء الذين نشؤوا في ظل الحضارة الغربية المعاصرة والتي تلجم العواطف وتكبتها وتفرض على الأب أن يصرخ في وجه ابنه: “كن رجلاً ولا تبكِ”، أو تفرض عليه أن يمتنع عن احتضان ابنه حتى يعلمه – كما يحسب – كيف يشب ويقف على قدميه دون اعتماد على الآخرين… أقول لهم إنّ هذه التربية الجافة أمر مرفوض لأنها تقسي مشاعر الأبناء وتجمد ينابيع العطاء في أعماقهم.
وفي المقابل يجب ألا نتمادى في الاحتضان والقبلات وخصوصاً في زماننا الذي ينقل إلى الأطفال صوراً مفضوحة من العلاقة بين الرجل والمرأة.
إنّ علينا أن نحتضن الأطفال ولكن لا ننسى أبداً أنّ الصبي منذ العام الثالث يتجه بكل الإعجاب إلى أمه، كما تتجه الفتاة بالإعجاب إلى والدها.
ولابدّ من أن تكون هناك حدود متوازية من الاحتضان والقبلات، فلا يصح أن نمنع أبناءنا من ذلك، ولكن لا يصح أيضاً أن نسرف معهم في ذلك.
إنني كثيراً ما أسمع عشرات الآباء يشكون من آبائهم عاملوهم بجفاء فانعكس ذلك على سلوكهم فيما بعد، فصاروا آباء متسيبين عاطفياً ولا يستطيعون السيطرة على أبنائهم، بل ينفذون كلّ ما يطلبه الأبناء منهم. وكثيراً ما سمعت من عشرات الأُمّهات أنّ التدليل المبالغ فيه هو الأمر الممكن الوحيد لبناتهنّ، لأنّ القسوة السابقة من أُمّهات هؤلاء الأُمّهات كانت كفيلة بإنتاج جيل متسيب العواطف. إنّ الأُم تعتذر بالتدليل الزائد للابنة عن عدم معرفتها بكيفية التعامل معها. إنّه بحر الحيرة الرهيب الذي يغرق فيه الآن أجيال من الآباء والأُمّهات الذين لا يعرفون كيفية التحكم في تربية الأبناء.
إنّ إنشاء عمارة من الطوب والأسمنت أمر يحتاج إلى تعاون بين المهندس والعمال والفنيين لتكون العمارة صالحة بعد ذلك لأن يسكنها أناس آخرون.
وإنشاء طفل على مقدرة لعطاء الحب وأخذه مسألة تحتاج إلى الإحساس المتوازن من الأب والأُم معاً.
إنّ الابن هو اللحن الذي نعزفه نحن الآباء والأُمّهات، وعلينا أن نعزف هذا اللحن بثقة واقتدار، ونحن نستطيع أن نفعل ذلك بمنتهى الهدوء لأنّ هذا اللحن طويل جدّاً.
إنّ عمر تربية الأب والأُم للابن لا يقل بحال عن واحد وعشرين عاماً، وهي أطول سيمفونية معزوفة بأنفاس كلّ أب وأم وأحلامهما وتجاربهما.
المصدر: كتاب تربية الأبناء في الزمن الصعب للـ د. سبوك