◄يقول جان بول سارتر: “إنّ هذه المرحلة هي بداية ربيع الحياة، فيها الغنى وانبجاس الطاقات، الوعد بمستقبل زاهر، والفظاظة أحياناً، فيها الورود والأشواك، تبدأ في سنّ البلوغ في حوالي الرّابعة عشرة من العمر وتنتهي حسب القانون والشّرع في سنّ الثامنة عشرة، إنّها مرحلة عدم الاستقرار، فالمراهق لا يتمتّع بحالة عدم الاكتراث التي تميّز بها في السنين السابقة ولا يملك حالة التوازن والتبصّر التي لدى الرّاشدين. إنّها بالمختصر مرحلة التكوين لكثير من جوانب شخصيّته وما لها من تأثير على حياته وقراراته المستقبليّة”.
بالنسبة للأهل هذه المرحلة صعبة وشائكة وأحياناً تكون محيّرة، لأنّهم في أحيان كثيرة لا يفهمون أولادهم، فيظهر عليهم الاندهاش وغالباً الألم من هذه الخصوصية التي تميّزهم فيرونهم هائجين، أحلامهم غريبة، لا يتقبّلون التعليمات أو التوجيهات بسهولة، العناد ميزتهم الأساسيّة، وهكذا نلاحظ أنّ التدخّل في حياتهم ضروري وإن كان أحياناً صعب جدّاً، وإذا كان هذا التدخّل يفتقر إلى المهارة والتفهّم من الممكن أن يسبّب ضرراً بالغاً وأحياناً يكون كارثيّاً، لذلك يتوجّب على الأهل والمربّين تفهّم المراهق لكي يستطيعوا استعمال الوسائل الناجعة والفعّالة التي تؤمّن له النموّ الطبيعي بعيداً عن التعقيدات.
ونستطيع القول أن مراحل العمر وما بينها من حدود بين الأجيال تختلف حسب كلّ زمان ومكان، فطرائق العيش والقيم المطلوبة غالباً ما تتأثّر بالأحداث التاريخية أكثر ما تتأثّر به بقيّة مراحل الحياة فالمراهق قابل دائماً للعطب وخاصّةً عندما يصطدم بالتحوّلات الاجتماعية، لذلك على المؤسسات التي تعتني بهذه المرحلة أن تكون فعّالة ومتطوّرة كي تعطي النتائج المرجوّة.
ومن الملاحظ غياب البواعث التاريخية الحَريّة بالعناية في الأدب النفسي المعاصر حول المراهقة، كما يحصل من تقدّم للعلوم النفسية في مجالات أخرى، وكأنّ رغبة هؤلاء العلماء عرض قوانين شاملة للنموّ من المحتمل أن تحتوي أقنعة تغطّي على أهمية التأثير التاريخي على مجرى التكوين الفردي، ويقول أحد العلماء “ديبيس” في مقالة نشر سنة 1947 وهو أحد إختصاصيي المراهقة في فرنسا “إنّ الخطأ يكون بالتفكير أنّ المراهقة تتغيّر تبعاً للأزمنة.. صحيح أنّ المراهقة تعكس التأثّر بواقع الزمن الذي تعيشه، ولكنّ هذه الصّور قد شاخت خلف الوجوه المتغيّرة للمراهقة. هناك المراهقة التي لها نفس المفهوم في كلّ العصور وهي متشابهة في ميولها ونزعاتها وهذه هي الأمور الأبديّة التي يتوجّب على الباحثين اكتشافها وتحديدها.
ولكن منذ فترة ليست بالبعيدة هناك أفكار وأبحاث حديثة أظهرت أنّه من الوهم التصوّر أنّ علم نفس التطوّر من الممكن أن يرتكز على قوانين ثابتة لا تتغيّر مصمّمة خارج الإطار التاريخي للتطوّر، المادي والثقافي.
ويقول “آريس سنة 1975” أوروبا ما قبل الثورة الصناعية لم تكن تميّز بين الطفولة والمراهقة، وفي بداية القرن الثامن عشر لم يكن عندها أيّة فكرة عن تلك المرحلة التي نسمّيها اليوم المراهقة، وحسب رأي هذا الباحث لم تبدأ فكرة البحث عن هذه المرحلة سوى في نهاية القرن التاسع عشر حيث بدأ المفكّرون والباحثون التطلّع جدّياً على ما يفكّر به المرهقون وبدأوا بنشر أبحاثهم التي تجيب عن هذه الأسئلة.
والمراهقة عندما ظهرت في أبحاث هؤلاء المفكّرين تبيّن وكأنّها تخبّئ مفاهيم جديدة جدّاً، وعندها القدرة على إعادة إحياء مجتمع شاخ وتحجّر، وهذه الفكرة هي التي استبقت البحث الذي نشره “ستانلي هول” سنة 1904 وهو أوّل بحث يتناول المراهقة بشكل علمي ومنظّم.
إذا كان “آريس” قد أحيا فكرة البحث عن المراهقة وما يشعر به هؤلاء الشباب، هذا الإحساس الذي ينتمي إلى فئة عندها مشاغلها وتطلّعاتها المشتركة، والتي لم تصبح ظاهرة عامّة في أوروبا إلا بعد الحرب العالمية الأولى، خاصّة عندما وقف المقاتلون على الحدود بشكل كتل متماسكة ضدّ الأجيال التي شاخت والتي كانت تعطي الأوامر من الدّاخل وراء الخطوط المتقدّمة، منذ تلك الفترة توسّعت فكرة الشباب أو الفتوّة أو بمعنى آخر المراهقة وارتفعت من معنى الطفولة إلى ما هو أعلى وأسمى، وفكرة البلوغ ونضج البالغين إلى أدنى. وهكذا بدأ التركيز في هذه المرحلة على عنصر الشباب وهي الفترة التي تقع بين سنّ العاشرة وسنّ العشرين.
وهكذا نكون قد عبرنا من مرحلة لا تعطي للمراهقة أهمية إلى مرحلة أخرى في القرن العشرين تعتبر سنّ الفتوّة هي المفضّلة بين كلّ مراحل العمر وكما يقول “آريس” إنّ لكلّ حقبة من الزمن فترة من العمر تكون لها أهميتها أكثر من غيرها ويعتبر هذا المنحى الفكري الذي افتتحه هذا الباحث الأساس لسلسلة من الأبحاث التاريخية التي حدّدت المفاهيم الراسخة للعائلة الحديثة، هذه المرحلة التي انبثقت مع انطلاق الثورة الصناعية وكيفية ومعنى هذه الظاهرة الشبابية المعاصرة.
ما هي المراجع التي نعتمدها في هذه الدراسة؟
هل هناك دراسات شرق أوسطيّة رائدة تناولت هذا الموضوع الشائك أم أنّ كلّ الدراسات كانت متأثرة بما صدر في أوربا وخاصّةً فرنسا وألمانيا وإنكلترا وبعد ذلك في أمريكا، لذلك سنتنّجه في أخذ مراجعنا من منابعها الأصلية وخصوصاً الأوروبية منها.
فلو ألقينا نظرةً معمّقة على العناوين التي تناولت المراهقة في الأدب الفرنسي منذ بداية هذا القرن لوجدنا أنفسنا أمام فيض من المؤلّفات التربويّة التي تتناول هذا الموضوع كُتبت بأيدي رهبان وأطبّاء ومربّين يتوجّهون مباشرةً بكتاباتهم إلى الأهل ومؤخّراً إلى المراهقين أنفسهم، ونلاحظ أنّ معظم العناوين مغرية بشكل لافت للنظر: “حياة الفتاة المراهقة ل س. د. سور بلد” و”ربيع الحياة، هذا ما يجب أن تفهمه المراهقة (كاسبا، 1937)، “من أجل عمر الزّهور (هامبلت 1921)، تكوين الفتاة المراهقة (باتمان 1922)، فتياننا (رينو 1936)، أزمة المراهقة (كوغلر 1955). هذه المؤلّفات وغيرها كثير أعطت دفعة قوية لعمل تربوي وأخلاقي جاد بتجنّبه حيرة الاعتبارات العلمية ويقول “كوغلر” في كتابه المذكور أعلاه “يجب أن نحذّر من صعوبات المراهقة وتعقيداتها وأن نبيّن لمراهقينا كيف يستعدّون للمجابهة وما هي الوسائل النّاجعة التي يحقّقون بواسطتها الإنتصار”.
ويعتبر “بيير ماندوز” أحد الباحثين المهتمين، وقد جمع عدداً كبيراً من الوثائق المهمّة سواء كانت رسائل أو أبحاث ونشرت في مجلات متخصّصة، وهذا ما وجده مغلوطاً تاريخيّاً لأنّنا نغرق الأهل والمراهقين بفيض من النصائح الأخلاقية النظرية التي لا تؤدّي إلى نتائج فعّالة” ويدعو هذا الباحث لمواجهة المراهقين والإستماع لهم ولما يشغل بالهم ويقلق مسيرة حياتهم، وذلك يساعد على فهم مراحل المراهقة واستخلاص المصطلحات المفيدة والمعبّرة ويقول إنّ هذه السنّ تبدأ بعدّة مراحل:
– مرحلة الطّيش: وهي تسبق مرحلة التردّد وكلّ ذلك يعود ويتموضع في سنّ يسمّيها (سنّ اللّطافة). وينتقد هذا الباحث الكتّاب الأمريكيين لأنّهم يعتمدون على الإحصائيات أكثر من الاعتماد على السّير الذاتية التي تظهر العمق الحقيقي لنفسيّة المراهق، وقد أثّرت دراساته المنهجيّة التي نشرها حتى سنة 1910 لفترة طويلة على علم نفس المراهقة في فرنسا ومنحته الصّفة الأدبية والعلمية لكشف لغز هذا السر الذي كان يكتنفه الكثير من الغموض.
أما (موريس دي بس) فقد هيمنت دراساته على علم نفس المراهقين في فرنسا ما بين 1935 و1960، فقد نشر في عام 1936 كتاباً بعنوان “كيف ندرس المراهقة” وفيه يركّز على أنّ دراسة المراهقة يجب أن ترتكز على البو العفوي، الرّسائل، ما يُكتب في الجرائد المتخصّصة، ما يكتبه التلامذة وعلى ما يسمّيه “الاستقصاء النسقي”.►
المصدر: كتاب أبناؤنا (من الطفولة المبكرة إلى سن الرشد)