لا يخفى على أحد أنّ للوالدين مقاماً وشأناً يعجز الإنسان عن إدراكهما. فهما اللذان يربيان ويسهران ويتعبان ويضحيان من أجل أولادهما، ينشئونهم ويربونهم ويعلّمونهم ويزوّجونهم. لكن، ماذا بعد زواج الأبناء، وهل من تغييرات تطرأ على حياتهم الجديدة، حين يتركون بيت أهلهم ليؤسّسوا بيتهم الخاص؟ بعد الزواج، قد يبادر البعض إلى القول: “لقد تزوجنا وتغيّرت حياتنا كلّها”. ويبدو أنّ هذه الحياة الجديدة، تحمل ذيولها خارج بيت الأهل وسلطتهم النافذة، التي كانت قبل الزواج بمثابة القانون الفعلي المحكم في تنفيذ قراراته وأحكامه، لتتحوّل تلقائياً إلى سلطة من نوع واهٍ تقريباً، يسمّيها البعض استشارية وآخرون يصفونها بأنّها توجيهية وغيرهم يعتبرونها تعريفية. فما هو واقع التغييرات التي تحصل لعلاقة الأهل بأبنائهم بعد الزواج؟ وكيف يفسّر الأبناء هذا التغيير وأسبابه؟ وهل يعترفون بأنّهم راضون عنه؟ وكيف ينظر إليه الأهل؟ بين الأهل والأبناء، خبرات وتجارب نسلط الضوء عليها في هذا التحقيق. – إنكار: “لو سألتم والدي عن التغيير الذي طرأ على علاقته بيّ بعد زواجي لأجابكم فوراً، شخصية ابني اختلفت”. هذا ما يقوله نشأت يونس (تقني كهربائي متزوج ولديه ولدان) قبل أن يتوجّه إلى ربّ السماوات والأرض بالدعاء قائلاً: “أدعو إليك يا رب أن تصلح الأمور بيني وبينه”. يبدأ نشأت في سرد حكايته وقد انفرجت أساريره قليلاً، يقول: “من الطبيعي أن يأخذ الزواج وأسرتي الجديدة الكثير من الوقت، إذا لم نقل معظم الوقت. وأنا لا أنكر أني أصبحت مقصِّراً مع أهلي قليلاً، إنّما هذا لا يعني أنّ مشاعر الحب والإنتماء إليهم اختلفت، أو أني أضحيت رجلاً آخر حين تزوجت”. حالة من الاستنكار تعلو ملامح نشأت وهو يكمل كلامه: “هناك تغيير في حياتي وهذا صحيح، فأنا اليوم زوج وأب لأسرة يجب أن أرعاها، لم أعد عازباً في بيت أهلي، لا مسؤولية عندي ولا هم أحمله. لا أعرف لماذا ينكر والداي عليّ هذا الأمر، وكأنّهما نسيا أنهما مرّا بهذه التجربة نفسها”. قد لا تكون حالة نشأت عامة، ولكنّها بشكل أو بآخر، تلقي بوزرها على زوجته نانسي التي تبوح بخجل: “أعرف أنّ والد زوجي ووالدته، يحمّلانني المسؤولية، وأدرك أنّهما يقولان لنفسيهما إنّي خطفته منهما. ولكني أقسم إنّ الظروف الأسرية هي التي تحكمنا وليس العكس. كما أنّ أهلي يعتبون عليَّ أنا أيضاً، لأنّهم لا يرونني كثيراً”. ترتبك نانسي وهي تلقي عبارتها الأخيرة: “نعم، هناك تغيير يحصل في علاقاتنا مع أهلنا بعد الزواج، وهذا أمر طبيعي وصحّي. أتمنّى على أهالينا أن يتقبّلوا هذا الواقع، بدلاً من التفكير في أمور لا صحّة لها”. – معاناة: لأن علاقة البنت بأهلها لها طابع خاص، من وجهة نظر دعاء النجار (مدرّسة علوم متزوجة ولديها ثلاثة أولاد) فإنّها (البنت) بحسب ما تقول دعاء: “تأخذ راحتها عندهم في كلّ الأمور، لكنّها سبحان الله، ما إن تخرج من بيتهم إلى بيت زوجها، تشعر حين تعود إلى زياراتهم وكأنّها ضيفة مثل أي ضيفة غريبة”. وتشير دعاء إلى أن من بين أكثر التغييرات التي شعرت بها حين تزوجت وتركت بيت أهلها “اضمحلال سلطة والديّ عليَّ، التي اختفت أو تبخّرت ببساطة، وأحسست بحرِّية جميلة، خصوصاً حين أدركت أني لم أعد مضطرّة إلى مجاراة ما يرغبان فيه أو العكس، وأني مستقلّة في الرأي والفعل”. وتضيف: “لكن الإحساس بالحرِّية، جعلني أشتاق إليهما وإلى نصائحهما وإرشاداتهما الغالية”. وتقول: “لقد تعلّمت من خلال تربية أولادي تقدير المعاناة التي عانياها وهما يربيانني أنا وإخوتي. كما أدركت كم كانا على حقّ في كل كلمة قالاها لنا، وكم كنّا مخطئين في عدم الإصغاء إليهما”، لافتة إلى أنّ “هذه الأمور لا يمكن فهمها إلّا بعد الزواج والإنجاب، ويجب إدراجها أيضاً في قائمة التغيير الذي يحصل في شخصية الأبناء، بعد أن يتركوا بيت أهلهم ليؤسسوا بيتهم الخاص”. – الأعزّ: من جهته، لم يكن يفكّر محمّد كيالي (مدير فني متزوج ولديه ولد وحيد) في أن تغييراً ما سيطرأ على علاقته بأهله بعد زواجه، إلا أنّه يقول: “لقد فوجئت بأنّ الأحوال تغيّرت تلقائيّاً، ما إن تزوجت. فبعد أن كنت أعول أهلي، وأساعد في مصروف البيت، تغيّرت خططي وتحوّلت إلى منزلي الذي أسسته لأعول زوجتي وابني”. حتى العادات تغيّرت بالنسبة إلى محمّد، يبوح: “لم أعد أخرج مع أهلي للاستمتاع في نزهات أو رحلات، ولا أرافقهم أيضاً في زياراتهم الإجتماعية، ذلك أني صرت أفعل ذلك مع أسرتي الصغيرة”. ويشير إلى أنّ “حياة العازب من الطبيعي أن تختلف عن حياة المتزوج، وبالتالي تتأثّر عاداته قبل الزواج مع أهله عن ما بعده”، لكنّه يصرّ على القول: “مازلت ابنهم الغالي، ومازالوا الأعزّ على قلبي. ولقد أدركت حين رزقت بإبني، كم تعذّبوا في تربيتي وكم ضحوا لأجلي”. يشرد محمّد قليلاً، ثمّ يكمل بتأثّر: “لقد تغيّرت مشاعري تجاههم وأضحيت أكثر ارتباطاً بهم عاطفياً. وبت أتوجّس من تقدّمهم في السن، ومن جرح مشاعرهم من دون قصد بسبب انصرافي إلى هموم بيتي على حساب اهتمامي بهم”. – قدوة: وبما أنّ البعض ينتقل بسلاسة من موقع إلى آخر، أو من أجواء إلى أخرى، تقول عبير جفّان: “لقد انتقلت من حضن أُمّي القانوني والتشريعي إلى حضنها الاستشاري، من دون الشعور بذنب ولو طفيف”. وتشير عبير، وهي متزوجة منذ 14 عاماً ولديها ثلاثة أولاد، إلى أن سنوات زواجها “كانت كفيلة بتدريبي على أن أكون قدوة لأولادي، عبر إقامة علاقة قوية وطيِّبة مع أهلي، يسودها الاحترام وتبادل النصائح الإيجابية”. انطلاقاً من هذه القناعة، تؤكّد عبير أنّها صارت “أكثر صراحة مع أهلي وبالتحديد مع أُمّي، لأن والدي متوفى. كما أني أجد نفسي طبيعيّة كما لم أكن يوماً قبل الزواج. ربّما لأن واقع تحوّلي إلى سيدة منزل وأُم، يجعل الأمر مختلفاً، ويكشف الأسرار التي تخفيها البنت في العادة عن أُمّها”. وتقول: “أنا اليوم لا أخفي عن أُمّي شيئاً، ولديَّ الجرأة لكي أناقشها بجديّة كبيرة في الموضوعات الشخصيّة والعامة كافة، لكن بالتأكيد ضمن حدود الأدب والاحترام”. تتنهّد عبير مع ابتسامة عريضة وتضيف: “أنا لا أساوي شيئاً من دون أهلي. وشعوري هذا تجاههم، لم يتملّكني بهذه الصورة إلّا بعد أن رزقت بأولادي.. حينها فقط عرفت قيمتهم الفعليّة”. – مجهر: ولأن وجهات النظر تختلف من شخص إلى آخر، يجاهر حسان مردقوش (مهندس بحري متزوج ولديه أربعة أولاد) بوجهة نظره الخاصة قائلاً: “كل شيء يتغيّر حين نتزوج. الطعام اللذيذ، العادات، الأصدقاء، الحياة الإجتماعية”، لافتاً إلى أنّ “الأهم من هذا كلّه، هو أن علاقتنا بأهلنا تتغيّر وتصبح حسّاسة جدّاً في بعض الأمور. فهم في الغالب لا يتوقّفون عند أخطائنا قبل الزواج، لكنّهم بعده، يتحسّسون من أي خطأ، ويعملون من الحبّة قبّة، وكثيراً ما يربطون الغلط بالزوجة، التي يضعونها تحت المجهر لسنوات عدّة، قبل أن تحصل على رضاهم”. قبل أن يسترسل حسّان في الكلام عن تجربته الخاصّة حول التغييرات التي طرأت على علاقته بأهله بعد زواجه، يعلّق قائلاً: “ينسى الأهل في بعض الأحيان أن ولدهم يخطئ، فتتحمّل الزوجة المسكينة تبعات ذلك”. ويتابع: “الحمد لله أنّ موضوع ثقة أهلي بزوجتي، لم يأخذ وقتاً طويلاً ليؤسّس لعلاقة متينة. ففي بداية زواجي شكّل هذا الأمر التغيير الأهم في حياتي”. ويؤكد حسّان أن “تأسيس بيت خاص بقوانين وقواعد جديدة ومختلفة عن تلك التي عاشها المرء في بيت أهله، أمر لابدّ منه، وهي جميعها تغييرات تصبّ في مصلحة شخصيتنا، وأسرنا الجديدة التي تكون بدورها امتداداً طبيعياً لأهلنا”.