الأحد 22 سبتمبر 2024 / 19-ربيع الأول-1446

التربية بالجمال



لا يكاد يحب العربية أحد ولا يحفظ شيئًا من أشعار امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وبشّار بن برد وأبي نواس وأمثالهما من “الماجنين”، كما لا يكاد يحب العربية أحد من طائفة المصلحين والعلماء والدعاة ولا يحفظ شيئًا من أشعار المتنبي مثلاً، والمتنبي لا يُنسب إلى صلاح ولا تعرف به التقوى!

فلمَ بقيت أشعارُ هؤلاء، وإن كانت ماجنة، واختفت كثير من أشعار الصالحين؟

إنه.. الجمال، سحر البيان، وهذا وصف نبينا  إذ: قال “إن من البيان لسحرًا[2]. بهذا السحر وحده خلدت هذه الأسماء ثم خلدت بها سيرتها وأثرها. ولا أظننا في حاجة لإثبات أن الشعراء المُجيدين أقرب إلى الخلود والأثر من عامة ذوي العقول والنظر.

نحاول في تلك السطور القادمة أن نطرق بابًا -هو على حد علمي- لم يُطرق إلى الآن بما يكفي على مستوى التنظير، وأشد منه ألمًا ومرارة حاله على مستوى التطبيق.

الحق وحده لا يكفي..

ربما لا يلتفت كثير من العلماء وأهل التربية والدعوة إلى أن القرآن لم يكن حقًّا فحسب، وإنما كان حقًّا جميلاً، بل معجزًا في جماله.

وبهذا الجمال تحدّى العرب أن يأتوا بمثله أو بسورة منه، وما استطاعوا.

وبهذا الإعجاز في الجمال أثبت أنه كتاب الله لا كتاب البشر، وأنه وحي الله لا وحي البشر {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ[النحل: 103]. وقف قليلاً عند قوله: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فهنا جملة الرد، وهنا موضع التحدي.

ولأنهم يعلمون أنه لسان عربي مبين، ومعجز قالوا: {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ[فصلت: 26]. فكأنهم أقروا أن سامعه لا يقاوم هذا الجمال إلا أن يؤمن به.

وحين ذهب عتبة بن ربيعة، وهو الخبير بالشعر، يفاوض النبي  فسمع منه القرآن، عاد إلى قريش وقد سلبه جمال القرآن عقله حتى إنه لم يتذكر منه شيئًا، ثم قال: “والله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته”[3].

ولا حاجة بنا للإطالة في هذا، فنحن نخاطب أهل التربية والدعوة، وإنما الغرض أن نقول: إن القرآن لم يكن حقًّا فقط، بل كان حقًّا جميلاً باهرًا إلى حد الإعجاز والتحدي. ولو كان الإنسان عقلاً فقط فلربما كان الأوفق له أن يكون كتاب حقائق علمية، ولكن فطرة الله في الإنسان أنه يتذوق الجمال، فوق كونه يعقل المنطق.

ونحن حين ندرك هذا، ندرك معه أنه لا ينفع الناس أن نعظهم بمجرد الحقائق، بل بلطائف الجمال كذلك، وهذا يشمل كل الناس من الطفل إلى الشيخ، ومن الجاهل حتى العالم، ومن لا يشعر بالجمال ولا يتأثر به، فلربما شككنا في سلامة فطرته.

وسنرى كذلك أن النبي  لم يكن داعية حق محض فحسب، بل هو من الجمال بمكان؛ لقد هيأه الله للرسالة فكان أجمل الناس خُلُقًا {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4]. ولكن ينبغي أن نتذكر كذلك أنه كان أجمل الناس خَلْقًا. روى البراء بن عازب فقال: “كان رسول الله  أحسن الناس وجهًا وأحسنه خلقًا، ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير”[4]. ولما سئل البراء أكان وجه النبي  مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر”[5].

ولقد أوتي القرآن ومثله معه[6] كذلك. انتبه: إنه لم يؤت القرآن فقط، بل أوتي السنة وقد وصفها بكونها “مثل القرآن”، فهي مثله في الحكمة، ومثله في البلاغة والجمال والإعجاز كذلك، وذكر النبي  فضله على الأنبياء، فكان مما قال: “أعطيت جوامع الكَلِم[7].

وإننا نجد سيدنا موسى حين كُلِّف بدعوة فرعون، أدرك أهمية حسن البيان فدعا الله فقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي[القصص: 34].

ولا يحسن أن ننسى أبدًا حال المنافقين، وهل في خصال البشر أسوأ من النفاق والانطواء على السوء؟ إن هذا الباطل المحض والسوء المنفر حين كُسِيَ بالجمال صار أهلاً لأنْ يحذر الله منهم نبيه وعباده المؤمنين، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ[المنافقون: 4]. قال ابن كثير: “كانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم”[8].

خَلْقُ الله.. وظيفة وجمال

نرى الإشارة إلى الجمال صفة ثابتة في منهج القرآن الكريم في مواطن التذكير بالنعم، وهذه الإشارة هي فاتحة المسار نحو تأمل هذه الطبيعة المضطردة في خلق الله تبارك وتعالى عبر الكون “كتاب الله المنظور”.

لقد امتن الله على عباده بالجبال التي تثبت الأرض وتحفظها فهي الأوتاد وهي الرواسي، ولكن تلك الجبال التي تقوم بمهمتها خير قيام كانت أيضًا {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ[فاطر: 27]. فكان “جمال” الجبال واختلاف ألوانها من نعم الله، ومن الأدلة عليه.

وذكر الله كذلك نعمته على عباده بما سخر لهم من دواب، تلك الدواب التي تنجز لهم أعمالهم وتحمل أثقالهم وتقطع بهم المسافات كانت كذلك من الجمال، اسمع قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 5-8].

بل قد يذكر الله الجمال أولاً وقبل الوظيفة {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ[الملك: 5]. فهنا كانت المصابيح زينة السماء قبل أن تكون رجوم الشياطين.

بل وربما ذكر الجمال فحسب، فتكون منة الله على عباده الجمال وحده {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ[النحل: 13]؛ ففي “اختلاف الألوان” تكمن الآية.

ومثل هذا أن يلفت الله النظر في ذات الشيء إلى الجمال وحده، إننا نجد الله حين قرر حق الفقراء في ثمار الأغنياء قال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا[الأنعام: 141]. ولكنه وفي آية أخرى في نفس السياق تحدث عن جمال الثمار فحسب فقال: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ[الأنعام: 99]. فهنا حديث عن الجمال الذي تراه العين، وأمر بالتأمل فيه.

إن هذا المنهج القرآني حري أن نتوقف عنده طويلاً، ونتعلم.. نتعلم كيف نعرض الحقائق في الثوب الجميل، باللفظ الجميل، بالعبارة الجميلة، فلقد خلق الله الإنسان ولكنه أنزل إليه لباسًا وريشًا.

ولقد أبدع في وصف هذا المنهج الأستاذ محمد قطب فقال في كتابه (قبسات من الرسول):

“الجمال فطرة الطبيعة، فطرة الحياة التي خلقها الله.

والحياة لا تكتفي بقضاء الضرورة، ولكنها تهدف دائمًا إلى الإحسان في الأداء.

أرأيت هذه الزهرة الجميلة الفياحة الشذى، المتناسقة الألوان؟ أتظن ذلك “ضرورة”؟

قالوا: لتجتذب إليها النحل فينتج منها العسل غذاء وشفاء للناس! وتساعد كذلك في تلقيح النباتات!

فهل تظن ذلك؟ هل من “الضرورة” بالقياس إلى النحل أن يكون في الزهرة كل هذا الجمال؟

كلا والله! فالنحل خلق متواضع! وإنه ليحط على الزهرة الرائعة التناسق، كما يحط على الزهرة العادية الجمال.

فليس جمال الزهرة إذن ضرورة! وكل الأهداف البيولوجية يمكن أن تتم في أبسط زهرة كما تتم في أجمل الأزهار.

ورأيت هذه الطبيعة؟

رأيت حمرة الشفق المبدعة، ورأيت جمال الصبح الوليد؟

رأيت روعة الجبال تبهر الأنفاس وتهز الوجدان؟

والبحر الممتد إلى غير نهاية منسرب الموج، تراه في الليل الساكن كأنما تعمره الأطياف.. أو الأشباح؟

والليلة القمراء.. هل “ذقتها”؟ و”ذقت” طعم السحر في ضوئها، وظلها، وأطيافها الساربة، وحديثها المهموس؟

هل تظن ذلك “ضرورة”؟

وأين هي الضرورة في ذلك كله، والحياة ممكنة ومستطاعة بغير هذا الجمال؟

ورأيت هذا الوجه الرائع؟

هاتان العينان الحالمتان اللتان يطل منهما عالم عميق الأغوار.. تلك التقاطيع المنسقة.. هذا المعنى المعبر.. تلك “الروح” التي تطل من وراء القسمات؟

تظن ذلك ضرورة؟ وما الضرورة؟

أليست كل العمليات البيولوجية من طعام وشراب وتنفس تتم في أقبح وجه وأجمل وجه على السواء؟”[9].

ثم يزيد هذا الأمر توضيحًا في كتابه (منهج التربية الإسلامية) فيقول: “إن الجبال لا تكتفي بأن تكون جبالاً.. ولكنها تكون جميلة ورائعة مكسوة بالثلوج، أو مكسوة بالغابات!

إن السحاب لا يكتفي بأن يكون سحابًا يحمل الماء.. ولكنه كذلك يكون جميلاً بأشكاله وألوانه، ثم ينتشر عليه في بعض الأحيان، طيف الشمس (قوس قزح) في منظر رائع جميل!

إن النبات لا يكتفي بأن يكون نباتًا، ولكنه يُورق ويزهر، ويستمتع منه الإنسان بزهره الأريج وشكله البهيج!

إن الطير لا يكتفي بأن يكون طيرًا، ولكنه يسقسق ويغرد ويلعب ويغرد ويقفز، وتزهو منه الألوان!

إن الحيوان لا يكتفي بأن يكون حيوانًا، ولكنه يقفز ويمرح، و”يتخابث” في لطف ويُستألف للإنسان”[10].

الدعوة بالجمال

حين خاطب الله تعالى الناس ليؤمنوا، والمؤمنين ليثبتوا ويزدادوا إيمانًا، كان الخطاب القرآني فوق بلاغته يشير إلى الجمال المنثور في الكون، وبهذا الجمال وإتقان الصنعة كان القرآن يقول للناس آمنوا بالله.

فالله هو الذي خلق لكم، وأنزل لكم، وسخر لكم، وإن جعل عليكم النهار سرمدًا فلن يأتيكم أحد بليل، ولو جعل عليكم الليل سرمدًا فلن يأتيكم أحد بنهار، وآيات القرآن في هذا الشأن يمتزج فيها إتقان الخلق بجمال الخلق.

{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد: 2-4].

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ[الملك: 19].

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[الأنعام: 95-101].

وقِسْ على هذا كثير، ونحن هنا في مقام الإشارة، ثم نحن نخاطب أهل التربية وهم في هذا المقام أفذاذ ألمعيون.

وبمثل هذا النهج كان حرص النبي  على الدعوة بالجمال، وقد سبق أن قلنا: إن الله حسَّن خلْقَه، ولكنه  وكما روى جرير بن عبد الله قال: “ما حجبني النبي  منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي”[11].

وكان  محتفيًا بالجمال إلى الحد الذي يقرر فيه أن “الطهور شطر الإيمان[12]. وقال: “لولا أن أشق على أمتي ، أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة[13].

ولقد أعلن النبي  أنه يحب الطيب فقال: “حبب إليَّ من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة[14]. وكان من عادته  إذا أُتي بطيب لم يرده[15]، بل وأوصى  فقال: “من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه طيب الرايح خفيف المحمل[16].

وعندما صُنعت لرسول الله  بردة سوداء ولبسها، فلما عرق فيها وجد ريح الصوف فقذفها[17].

ولهذا كان من وصف خادم النبي أنس بن مالك  قوله: “ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله ، ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله [18].

وتعددت وصايا النبي  في هذا الموضوع. يروي أبو الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي  في ثوب دون. فقال: “ألك مال؟” قال: نعم. قال: “من أي المال؟” قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: “فإذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته[19].

وأوصى فقال : “ما على أحدكم إن وَجَدَ أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ؟!”[20].

وخلاصة المنهج الإسلامي مع الجمال تكمن في قوله : “إن الله جميل يحب الجمال[21]. وبالجملة فإن المصطفى  “لم يتسخ له ثوب قط، قيل: لأنه لا يبدو منه إلا طيب”[22].

كما كان  صاحب ذوق رفيع، وهو نوع آخر من الجمال كذلك:

فعن أنس بن مالك أن النبي  “كان إذا صافح رجلاً لم يترك يده حتى يكون هو التارك ليد رسول الله [23].

ونهى  أن يجلس الرجل بين الرجلين إلا بإذنهما[24].

وقال : “إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه[25].

وقال : “من لا يشكر الناس لا يشكر الله[26].

حتى في مناداة العبد والخادم أوصى النبي لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: فتاي وفتاتي[27].

هذا المنهج تعلمه صحابة النبي  فعرفوا أن للجمال أثرًا في الدعوة، وأي أثر! فحين ذهب ابن عباس  كرسولٍ من علي بن أبي طالب لمحاورة الخوارج الحرورية وإقناعهم بالحق.. إنه لجدير أن نقف عنده وهو يختار أن يلبس لهذه المهمة أفضل ما لديه من ثياب. روى أبو داود عنه أنه قال: لما خرجت الحرورية أتيت عليًّا  فقال: ائت هؤلاء القوم. فلبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، قال أبو زميل: وكان ابن عباس رجلاً جميلاً جهيرًا. قال ابن عباس: فأتيتهم فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة؟ قال: ما تعيبون عليَّ لقد رأيت على رسول الله  أحسن ما يكون من الحلل”[28].

وأثر الجمال في النفوس فهمه أيضًا سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، حتى يحكي الإمام المناوي قائلاً: “وقد كانت ثياب شيخ الإسلام البرهان بن أبي شريف  في غاية النقاء والنظافة والبياض إلى حد لا يبلغه ثياب الملوك في عصره، كأنه مع ثيابه قطعة نور. (ثم يضيف المناوي) والنظافة مما تزيد في العين مهابة، وفي القلب جلالة”[29].

وفي هذا المقام نرجو إخواننا وشيوخنا الدعاة والمربين مراجعة سيرة الإمام الليث بن سعد.

.. والعزة بالجمال

ذلك ما فهمه معاوية بن سفيان  حين كان في ولاية الشام على عهد أمير المؤمنين عمر ، فحين خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه وراح إليه في موكب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله، وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك. قال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا ولهم عيون وجواسيس، فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزًّا. فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب”[30].

ويروي المقري عن العصر الذهبي للأندلس زيارة ملك الجلالقة أردون (أوردونيو) ودخوله إلى قصر قصر الزهراءالزهراء بين يدي الحكم المستنصر (حكم منذ 350هـ إلى 366هـ)، فما كاد الملك يتماسك مما رآه من أبهة وجمال، حتى إنه سجد بين يدي الخليفة مرارًا، وظل لوقت ساكتًا من الجلال: “فلما قابل السرير (كرسي الخليفة) خر ساجدًا سويعة، ثم استوى قائمًا، ثم نهض خطوات، وعاد إلى السجود، ووالى ذلك مرارًا إلى أن قدم بين يدي الخليفة، وأهوى إلى يده فناوله إياها وكر راكعًا مقهقرًا على عقبه إلى وساد ديباج مثقل بالذهب، جعل له هنالك ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير (كرسي الخليفة)، فجلس عليه والبَهْرُ قد علاه… فأطرق الحكم عن تكليم الملك أردون إثر قعوده أمامه وقتًا كيما يُفْرِخ روعة، فلما رأى أن قد خُفِّض عليه افتتح تكليمه… تطلق وجه أردون وانحط عن مرتبته فقبّل البساط وقال: أنا عبد أمير المؤمنين… فكرر أردون الخضوع وأسهب في الشكر وقام للانصراف مقهقرًا لا يولي الخليفة ظهره وقد تكنفه الفتيان فأخرجوه إلى المجلس الغربي في السطح وقد علاه البهر وأذهله الروع من هول ما باشره وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العزة، فلما أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خاليًا منه انحط ساجدًا إعظامًا له (وأمر له الخليفة بخلعة) كانت دراعة منسوجة بالذهب وبرنسًا مثلها له لوزة مفرغة من خالص التبر مرصعة بالجوهر والياقوت، ملأت عين العلج تجلة فخر ساجدًا وأعلن بالدعاء…

واستشعر الناس من مسرة هذا اليوم وعزة الإسلام فيه ما أفاضوا في التبجح به، والتحدث عنه أيامًا، فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المرادي:

مُلك الخليفة آيةُ الإقبال *** وسُعـوده موصـولة بتوالي

والمسلمون بعزة وبرفعـة *** والمشركون بذلة وسفال”[31]

وإن نظرة إلى قصر الحمراء في غرناطة لتملأ النفس الإنسانية إعجابًا وانبهارًا، وتملأ نفوس المسلمين خصوصًا فوق الإعجاب حسرة وحزنًا وشوقًا وفخرًا.

ولا أحسب أحدًا يجادل في أن جماهير من تغربوا أو انخدعوا بالغرب بهرهم جماله وتفوقه، لا فلسفته وثقافته.

والخلاصة..

أن الدخول إلى النفس من باب الجمال، هو منهج قرآني ونبوي، وهو قرين الدخول إلى الإنسان من باب العقل والإقناع بل ربما أحيانًا يسبقه، والعبرة في هذا بطائفة المخاطَبين أو الطلاب والتلاميذ، وكلما كان المخاطَب طفلاً أو غلامًا، ازدادت الحاجة إلى الجمال أكثر من الإقناع.

وإنه ليحسن للداعية أن يتحدث عن “جمال الإسلام” بدل أن يتحدث عن “قيود الإسلام” أو “تكاليف الإسلام” والمعنى في الحالين واحد، ولكن المدخل في الأولى ألطف وأقرب وأحب إلى النفس.

ولا شك عندي في أن نفس الداعية مستحضرة للحق متحيزة له، ولكن الأمر لا يتطلب كثير وقت لتحسين المداخل وتجويد العبارة.

وليتذكر أن الخلود مشروط بالجمال، طالما كان الموضوع في ميدان النفس ولم يكن في ميدان العلوم البحتة، ولعله حين يشرد مفكرًا في الجمال سيجد في رأسه بيتًا للمتنبي أو أبي نواس، فيعلم أن فطرة النفوس وإن رفضت المعنى فقد قبلت الثياب {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ[الأعراف: 26].

بقلم: م. محمد إلهامي[1]


[1] باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، وصاحب مدونة المؤرخ http://www.tadwen.com/melhamy.

[2]رواه البخاري.

[3]انظر: الألباني: صحيح السيرة النبوية، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، ص158-160. وإبراهيم العلي: صحيح السيرة النبوية، دار النفائس، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 1415هـ/ 1995م، ص58.

[4]متفق عليه، واللفظ لمسلم.

[5]متفق عليه، واللفظ للبخاري.

[6]حديث “ألا أني أوتيت الكتاب ومثله معه”. أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2643.

[7]رواه مسلم.

[8]ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق سامي بن محمد سلامة، دار طيبة، الطبعة الثانية 1420هـ/ 1999م، 8/126.

[9]محمد قطب: قبسات من الرسول ص105-107.

[10]محمد قطب: منهج التربية الإسلامية ص150.

[11]متفق عليه.

[12]رواه مسلم.

[13]رواه البخاري.

[14]رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي، وصححه الألباني برقم (5435) في صحيح وضعيف الجامع الصغير.

[15]رواه البخاري.

[16]رواه مسلم.

[17]رواه أبو داود، وصححه الألباني في التعليق على أبي داود.

[18]رواه مسلم.

[19]رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 254.

[20]رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني في التعليق على أبي داود وابن ماجه.

[21]جزء من حديث رواه مسلم.

[22]المناوي: فيض القدير، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1415هـ/ 1994م، 2/285.

[23]انظر: السلسلة الصحيحة للألباني رقم 2485.

[24]انظر: السلسة الصحيحة للألباني رقم 2385.

[25]متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.

[26]رواه البيهقي، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع رقم 3014.

[27]رواه مسلم.

[28]رواه أبو داود، وقال الألباني في التعليق على أبي داود: حسن الإسناد.

[29]المناوي: فيض القدير، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1415هـ/ 1994م، 2/285.

[30]الطبري: تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 3/265.

[31] المقّّري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر – بيروت، لبنان، 1408هـ/ 1988م، 1/388-393 باختصار.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم