الأثنين 23 ديسمبر 2024 / 22-جمادى الآخرة-1446

غير نفسك بهدوء وتدرج



يعجبني كثيراً أمثلة روّاد من الرجال والنساء الذين استطاعوا أن يتكيفوا مع مستجدات عصرهم ويواكبوا التغيرات السريعة بثبات وتمسك بالأصول والثوابت والقيم. إن السر العظيم في ذلك هو توصلهم إلى معادلة متوازنة ودقيقة بين الرغبة في التغيير وتحقيق هذا التغيير والرغبة في المحافظة على الثوابت والقيم وتحقيق ذلك في أرض الواقع.

كم مرة سمعنا في حياتنا أنّ التغيير سنة الحياة، وأنّ التغيير يطال كلّ شيء من حولنا، وأنّ الشيء الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير المستمر. وأنك إذا أردت أن تعيش لابدّ أن تستجيب بطريقة أو بأخرى لهذا التغيير. وكم مرة قيل لنا إنّ التغيير لا يطال فقط الأمور المادية بل يتعدى ذلك إلى القيم والمفاهيم وأنماط السلوك الإنساني. ومع ذلك نحن نقاوم التغيير ونخاف منه ونتردد في التعامل معه. ولا شك أنّ التغيير قد يكون مخيفاً، وحق لنا أن نقاومه أحياناً، ولكن قدرتنا على المقاومة ستنهار مع الزمن خاصة إذا  كان هذا التغيير سنة كونية وأمرالً حتمياً.

خذ على سبيل المثال بعض المجموعات البشرية التي رفضت معطيات الحياة المعاصرة، فسكنت في مناطق منعزلة عن المدن وعزفت عن استعمال الكهرباء والآلات والمركبات بحجة أنّ هذه المعطيات ثورة على الماضي وأنها أفقدت الإنسان صفاء الحياة، وأنها عقدت حياته وأبعدته عن نظرته السليمة وأسلوب حياة آبائه وأجداده. والغريب أن مثل هذه المجموعات البشرية موجودة في كلّ المجتمعات الإنسانية حتى أكثرها تقدماً مادياً. ففي أمريكا مثلاً هناك مجموعات لا تزال تعيش على هامش الحياة وتسكن بعيداً عن المدن ولا تستعمل الكهرباء والآلات الحديثة.

كما أن هناك مجموعات في عالمنا العربي والإسلامي وبعضها موجود قريب منا في وسط جزيرة العرب.

ما هي النتائج الواضحة التي حصلت من جراء رفض التغيير عند هذه المجموعات البشرية؟ الواقع أن هناك نتيجتان رئيستان: الأولى هي أنّ الحياة تقدّمت، وأنّ المنجزات المعاصرة ازدادت، وأنّ الإنسان المعاصر يجني ثمار هذا التقدم وهذا التغيير وأن الاستفادة من هذه المعطيات تحصل بقدر درجات تسخيرها والتكيف معها وتوظيفها لتمكين الإنسان من التحكم في حياته والاستمتاع بها.  والنتيجة الثانية: إنّ المجموعات والأشخاص الذين رفضوا التغيير انعزلوا وهُمشوا وأصبحوا يعيشون في جزر منعزلة من التخلف وسط محيط متلاطم من التقدم والحراك الاجتماعي.

قد يكون هذا المثال الذي قدمته عن رفض التغيير بعيد عن سياقك أيها القارئ ولكني أردت منه إعطاء صورة مبالغ فيها لرفض التغيير. وبين هذه الصرة المفرطة في البعد وصورة الانفتاح الراشد للتغيير هناك مجموعة كبيرة من الصور تختلف في مستوياتها ودرجاتها.

لماذا نخاف من التغيير؟ إننا نخاف من التغيير لمجموعة من الأسباب:

أوّلاً: التغيير يجبرنا على تغيير عاداتنا والأمور المألوفة التي تعودنا عليها. وعاداتنا هي أهم جزء من حياتنا لأننا طورناها على مدى طويل من الزمن، ونمارسها بكل هدوء وراحة ومتعة. إنّ التغيير يعني أننا لابدّ أن نتخلص من بعض عاداتنا وأن نتبنى عادات جديدة، وهذا قد يسبب لنا بعض الألم والإحراج والارتباك ويطلب منا تقديم التنازلات والتضحيات.

ثانياً: التغيير يجبرنا على خوف المجهول. وكلّ واحد منا يخاف من المجهول ولا يرغب في وضع مكتسبات حياته في قوارب من المغامرة.

ثالثاً: التغيير يجبرنا على التعلم وبذل الجهد والاستجابة للأمور الجديدة. وأغلبنا لا يرغب في بذل الجهد والتعلم فربما رضي بحياته ومكتسباته.

رابعاً: قد يبدو للبعض منا أنّ التغيير يفقده المرجيعة التي تربى عليها وتعلمها وأصبحت أسلوب حياته.

خامساً: التغيير قد يطالبنا بالتنازل عن بعض قيمنا وأفكارنا وسلوكياتنا.

والواقع أنّ كلّ المخاوف منطقية وتمثل هاجس للإنسان، ولكن الحقيقة الكبرى هي أنّ التغيير سنة الحياة، وأننا لابدّ أن نتعلم المعادلة المتوازنة التي يمكننا بها أن نواجه التغيير فنتغير بهدوء وتدرج مع المحافظة على الثوابت والأصول من قيمنا. فيقول – سبحانه وتعالى –: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11)، بمعنى أن عملية التغيير قضية تتعلق بالمبادرة الذاتية وأنها تبدأ من القناعة الشخصية بالتغيير.

إنّ الطريقة الصحيحة للاستجابة للتغير هي أن تغير نفسك والآخرين بهدوء وتدرج وبخطوات صغيرة، حتى يصبح التغيير جزء من حركة الحياة وعامل من عوامل متعة الإنسان ونجاحه وتحقيق أهدافه وطموحاته.►

 

المصدر: كتاب دروس ثمينة في تحقيق التميز والنجاح في الحياة

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم