قصص عقوق الوالدين جانب مظلم تضيق منه الصدور، وتتكدر الأمزجة، والجانب المشرق هو الذي يحسن ذكره، والتشبه به إن لم نكن مثله. ويعجب المرء عندما يسمع بقصص عقوق الوالدين في هذا الزمان، والتي بلغت درجة القتل لأحد الوالدين، إنها صورة لم ولن يتخيلها عاقل.
فكثيرا ما يقرن الله عبادته عز وجل ببر الوالدين (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)، ومعنى قضى: أمر وألزم وأوجب، (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا)، وقرن أيضا شكرهما بشكره (أن أشكر لي ولوالديك إليّ المصير)، والوالدان ولو كانا كافرين فيجب البر بهما في غير معصية (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)، وإبراهيم عليه السلام رغم كفر والده إلا أنه دعاه إلى الدين الصحيح برفق ولين فكرر معه (يا أبت) مرات، والسنة النبوية مستفيضة في وجوب بر الوالدين.
الدكتور عبد اللطيف عامر أستاذ الشريعة الإسلامية كلية الحقوق جامعة الزقازيق يصف الصور المشرقة من حال السلف مع بر الوالدين فيقول: عن عُروةَ بن الزبير قال: «ما برَّ والدهُ من شدَّ الطَّرفَ إليه» . رواه ابن أبي شيبة في «المصنف»، ومعنى شد الطرف، أي النظر شزرا، وهي النظرة التي تكون في حال الغضب، عن عروة رضي الله عنه في قوله: «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» قال: إن أغضباك، فلا تنظر إليهما شزرا، فإنه أول ما يعرف غضب المرء بشدة نظره إلى من غضب عليه.
وكان محمد بن سيرين من أبر الناس بأمه، فماذا كان يفعل؟ قال هشام بن حسان : حدثتني حفصة بنت سيرين قالت: كانت والدة محمد – يعني ابن سيرين – حجازية ، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوبا اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثيابا، وما رأيته رافعا صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها.
وعن ابن عون، أن محمدا كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه، ظن أن به مرضا من خفض كلامه عندها – أي أمه. وإذا كان الله نهى عن كلمة «أف» (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) فكيف برفع الصوت؟ وكيف بالضرب؟ وكيف بالقتل؟ نسأل الله العافية.
قال ابن المُنكَدِر: باتَ أخي عمر يُصلّي، وبِتُّ أغمز قدم أمِّي، وما أحبُّ أنَّ ليلتي بليلته. بمعنى أن عمل أخيه نفعه له فقط، بينما تدليك محمد بن المنكدر لقدم أمه نفعه متعدٍّ لوالدته، وهو من البر الذي لا يأنف الابن من عمله للوالدين.
ويسرد د. عبد اللطيف عامر قصة طريفة من قصص الريف الفرنسي ، هي قصة شاب فرنسي مع والدته حيث كانا يسكنان في مزرعة في قرية صغيرة وكانا يربيان الابقار والدجاج ويوجد معمل بالمزرعة يضم عددا من العمال يصنعون منتجات الألبان ويقوم الشاب ببيع هذه المنتجات في الاسواق المجاورة وكانت أمه تساعده في جمع البيض والإشراف على صناعة الجبن في معمل المزرعة.. ومرت الأعوام وكبرت الأم وبدأت تتدخل كثيرا في عمل المعمل مما آثار استياء العمال والتندر من كثرة ملاحظاتها وأوامرها، وابنها يلاحظ ذلك لكن لا يستطيع منعها فهي قد كبرت وعليه أن يتحملها.. واستمرت الأم في توبيخ العمال ونهرهم و زجرهم مما كان له الأثر السلبي على نفسيتهم وانعكاس ذلك على عملهم.
خطرت للإبن فكرة جيدة يصرف بها أمه عن عمال المزرعة.. توجد بالقرب من المزرعة كنيسة أثرية صغيرة وكل يوم يأتي باص سياحي يقل عددا من العجائز يزورون الكنيسة ويتفرجون على معالمها التاريخية و ينصرفون. فقام الشاب وانتظر توقف الباص السياحي وتكلم مع المرشد السياحي وعرض عليه مبلغاً من المال مقابل أن يأخذ السياح بعد مشاهدة الكنيسة إلى ركن من مزرعته وتقوم والدته بتقديم الشاي والسندويتشات لهم بالمجان … ويتظاهر المرشد بتقديم مبلغ من المال لوالدته على أن يقوم ولدها بإعادة المال مرة أخرى له دون أن تلاحظ الأم.. ونجحت الخطة وانشغلت الأم وأصبحت لا تكلم العمال بل تقضي جل وقتها في عد الفلوس وترتيب الطاولات والكراسي وأعداد أطباق الشاي والسندويتشات والمرشد السياحي سعيد للغاية لأن الوجبة المجانية ساهمت في جذب العديد من السياح لشركته.
مرت خمس سنوات ولاحظ الإبن أن أمه تعبت ولم يعد بمقدورها إعداد الشاي والمأكولات بل أصبحت لا تقوى على الحركة. هنا ذهب وتحدث مع المرشد وطلب منه التوقف عن إحضار السياح فأمه قد تعبت وكبرت.. وهنا التفت إليه المرشد وقال: لا يمكننا ذلك! فأعداد السواح تضاعفت والسبب “الوجبة المجانية التي تقدمونها”، لكننا على استعداد أن ندفع ثمنها الفعلي مقابل أن توافقوا على استقبال السياح في مزرعتكم الجميلة. وافق الشاب وأسند هذاالعمل لعمال المزرعة وأصبح لدية موردا جديدا آخر تدره المزرعة إلى جانب الألبان ومنتجاتها من بيض ودجاج.. لقد أحسن الشاب إلى أمه فأحسن الله إليه .