اعترف لي بأنه ـ وهو الموجه والمرشد التربوي ـ كان سببا رئيسا في الاضطراب النفسي الذي أصيبت به زوجته، وتبعه آخر، واكتشفت بدوري آخرين، كان منهم شاب في المرحلة الجامعية، لاحظت من تصرفاته بأنه مصاب بنوع من الفصام، وحين سألته بأسلوب غير مباشر، أكد لي ذلك، وكان السبب عنف والده معه، الذي تطور من الضرب الشديد فيما قبل الجامعة، إلى الاقتصار على الإساءات اللفظية والنفسية المستمرة بعد الجامعة (تقديرا لمكانة الجامعة بالطبع)!!!.
وحين قابلت بروفسور الصحة النفسية أ.د.علاء الدين كفافي، واستمتعت بأفكاره الناضجة حول الأسرة وأدوارها الضدية، أيقنت بصدق كل تلك التوقعات العفوية، وأكثر من ذلك. فالأسرة ـ كما يقرر علماء النفس والاجتماع ـ منظمة حاسمة التأثير، فالعلاقات دقيقة وحميمة، إذا انتظمت فيها المشاعر، فإن أفرادها هم الوحيدون الذين يمكن أن يضحي كل منهم للآخر ولو احتاج عضوا من أعضائه، ويمكن أن تتحول فيها العلاقات إلى أسوأ ما يمكن أن يحدث؛ فيقتل أحدهما الآخر كذلك.
والحقيقة أن ما يحدث من عنف أسري من الوالدين ـ على سبيل المثال ـ تجاه الأولاد لم يكن كله بدوافع عدوانية، وإن كان كله عدوانا، فهناك منظومة من المعتقدات التربوية الخاطئة التي تسيطر على أذهان الآباء والأمهات، من أن الضرب والشدة تهيئ الأولاد ذكورا وإناثا لتحمل المسؤولية في المستقبل، ويستشهدون بواقع من ضُربَ ونجح، وهم لا يعلمون بأن هذا النجاح يحمل معه أنواعا من التشوهات الخُلُقية، والنفسية، ومن يعمل في معالجة الاضطرابات النفسية لدى الأطفال، سيجزم بالأثر الأسوأ للأسرة في حدوثها، لا يخرج عن ذلك حتى ما يحدث من الآخرين؛ كالإعلام المرعب الذي يسمح به الوالدان، أو الاعتداء الجنسي الذي يكون في غفلة الوالدين، بينما أكثره بسبب مباشر من التصرفات الخاطئة منهما.
إن الأسرة تحتكر العامل الوراثي كله، ومعظم العامل البيئي، ولذا فهي المرشحة لتكون منجبة لمريض نفسيا، ومرشحة كذلك لتكوين إنسان قادر على الاختيار في المستقبل في أطر من الدين والقيم والأعراف الحسنة، دون إرغام، وهي التي تسمح بـ(البدايات) لأي اتجاه سلوكي أو توجه علمي أو انتماء فكري لأفرادها، وهي القادرة ـ أيضا ـ على تدريب أفرادها على الوقاية من الاضطرابات النفسية والسلوكية، وعلى القدرة على الخروج منها إن وقع في أحدها بأي سبب.
وفي الوقت الحاضر تحتاج الأسرة أن تستفيد من نوعي الأسرة في المنظور النسقي، لتكون بينهما بمهارة عالية، وهما: الأسرة المنغلقة؛ بقدرتها على السيطرة على نوافذ التأثير على أفرادها، من صداقات ومواد إعلامية ونحو ذلك، ومتابعتها لتطورهم واتجاهاتهم مهما كبروا، وبما أن الجدران الخارجية صلبة في هذا النوع، فإن الجدران الداخلية مرنة، وتسمح بالتداخلات، وقد يكون فرد أقدر من فرد على التأثير، فيطغى تأثيره على البقية، فيصبغهم بصبغته.
والأخرى: الأسرة المنفتحة: تلك التي حدودها مرتخية ومرنة، تسمح بكل التأثيرات الخارجية للنفاذ داخلها، وتخف لديها ـ أو تنعدم ـ التوجيهات اللازمة لمساعدة أفرادها على الاختيار، وهنا تقع صراعات، تنتهي بالانصياع للأقوى، إما التيار الخارجي، أو المقاومة الداخلية الناتجة عن معتقد أنى كان التيار أو نوع المعتقد سويا، أو غير سوي.
الأسرة السوية هي التي تكون وسطا بينهما، وقد يصح أن نسميها: (الأسرة الحازمة)؛ فهي ليست متشددة، ولا مفرطة، ولا مغلقة، ولا مُعَنِّفة، ولا متساهلة، بل هي: بناءة، محفزة، متابعة، مُفَوِّضة، ملتزمة بمسؤوليتها في تعديل السلوك لو احتاج الأمر إلى ذلك ولكن بالطرق العلمية.