الإخلاص الحقيقي للمهنة يقتضي التأهل الكامل لأدائها على ما يرضي الله تعالى ثم من يستفيد منها، فليست الوظيفة فرصة رزق فقط، وإنما ثغرة في كيان الوطن. وإنما وجدت الوظيفة لتقدم خدمة للمحتاجين إليها، ولذلك فإن الهدف من وجود الموظف هو تحقيق الرضا للمستفيد، وليس لإيهام الإدارة التي يتبع لها وخداعها بجودة العمل.
نعم، تعيش بعض الإدارات نوعا من الوهم العملي، الذي يقوم على تسطيح الخدمات التي تقدمها، بحيث توحي للإدارة التابعة لها بأنها تقدم برامج نوعية، وأنها طورت في أداء واجباتها التي أوكلتها وزارتها لها، وأنها حققت إنجازات تفوق الإستراتيجيات والخطط التي وضعتها، وأنها حصلت على رضا المستفيد بالفعل، وقد تدلل على ذلك من بعض الحالات القليلة التي أوردتها.
وقد تكون ماهرة في تزويق زاوية من زوايا العمل، لا تمثل لبه، ولا تزيد من عناصر نجاحه، تحقق ـ من خلالها ـ صدى إعلاميا لافتا، يجعل المتابعين الرسميين سواء من الدوائر التي ترأسها، أو دوائر المراقبة العامة تطمئن إلى أنها تقوم بواجبها، لا.. بل إنها قد تكون ـ في نظرها ـ معدودة من المبرزين في القفز بالإدارة إلى الأمام، وليس التطوير فقط.
والحقيقة أن ثمة غطاء جميلا للغاية، طُليَ بألوان مبهرة، استطاع أن يخفي ما تحته من الركود، أو من التقهقر أيضا، ويسر الناظرين في الوقت نفسه.
إن الإدارة التي تقوم على الوهم العملي، تستثمر جهود الآخرين لتبرز، وتجيد تجيير أعمال الآخرين لصالحها، وتحسن إبعاد الأسماء اللامعة التي قامت بها، وتنفق غالب ميزانيتها في الحفلات المكلفة، والمطبوعات الفاخرة جدا، التي تزركش الإنجاز الوهمي.
إن رضا المواطن ميزان رائع لقياس عمل المؤسسات والإدارات الخدمية، ومعايير هذا الرضا يمكن تحديدها من قبل المختصين في الخدمة المقدمة. والإدارة الحريصة على تحقيق النجاح الفائق، وعلى بلوغ هذا المستوى الرفيع لن تخشى من القياس المهني، بل ستسعد كثيرا لو أنها وقفت على أخطائها، ومكامن ضعفها؛ لتبادر بالإصلاح العاجل، الذي يجعل عجلة التنمية تسرع في الاتجاه الصحيح، والحقيقي.
إن أولياء الأمور ـ وهم يؤكدون على ضرورة تسهيل الخدمات للمواطن ـ إنما يعنون أن يتوجه الموظف ومن يديره إلى إتقان الخدمة مباشرة، وأن تكون مقدمة في ثوب من الجمال المعنوي، فالعطاء لا يجمل إلا إذا صغَّره صاحبه، ولم يمنَّ به، وعجَّله. ومن الغريب أن يقدم الموظف خدمته للمواطن، ويأخذ عليها أجرا، ثم يمنُّ بها عليه!! أو يؤخره وهو يستطيع أن يعجل له حاجته، أو أن يضخم المهمة؛ ليحصل على الشكر، والتبجيل أو على خدمات مقابلها!!.
إنه واجب يقوم به، وعليه أن يُتبعه بطلب القبول من رب العباد، الذي جعل العمل تكريما للإنسان، وجعل خير الناس من يأكل من عمل يده.
إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به».
وتلك قاعدة نبوية عظيمة، تجعل كل إداري يراجع نفسه جيدا في تصرفاته، فإن كانت في رضا الله تعالى، وقد رفق بالناس، فهنيئا له دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت في رضا نفسه، وتلبية لحاجة في خاطره، وإن كان فيها مشقة وضرر على الناس، فلا يؤمن عليه أن تصيبه دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
إن كل مرحلة من مراحل حياتنا الوظيفية تاريخ نسجله مع أنفسنا أولا، ثم مع الناس، وكلنا يحب أن يكون تاريخه مجيدا.