لكل عاشق لخدمة دينه ووطنه ومجتمعه اهتمامه الخاص الذي يمثل أولية لديه، ومن الخلل الكبير في بنية المجتمع وإن شئت قل: بنية الوطن، وإن شئت فقل: بنية الأمة، ـــ من الخلل الكبير حقا أن يمنح أحدنا موضوعا ما ـ مهما كان جليل القدر ـ الأهمية الأولى لدى كل الناس، ويَصِمُ من لم يكن له إسهام في قضية ما بأنه ينأى بنفسه عما يجب أن يسهم فيه، أو أنه إنسان سلبي، أو يهرب من واجبه.
وما أسهلَ رميَ الناس بالتهم في هذه الأيام، حتى تذكرت أيامَ العصر العباسي، حيث الرميُ بالزندقة والشعوبية وغيرها من المصطلحات كان سمة من سمات التهتك المجتمعي، إذ تكفي كلمة من هذا أو ذاك أن تودي بالرجل، وربما موقف من أمر مثير للجدل كان قبل عقدين أو ثلاثة، حيث الأرض غير الأرض، وأهلها غير أهلها اليوم، وهو هناك متحفزٌ يقف على ربوة صخرية لا يزال يرمي الناس بأحجارها الصلدة، فلا هو وضع يده في خير ينفع به نفسه وينفع الناس، ولا هو ترك غيره ينفعهم دون أذى منه.
إن الاشتغال بأي أمر من أمور النفع العام كرامة من الله تعالى، وشرف عظيم يتقلده من وُفق لذلك، وفي المقابل فإن من قلة المروءة التشكيك في نية إنسان ما بأنه يريد بذلك الوجاهة، أو التزلف، أو غير ذلك مما تقذف به النفس التي تعودت الكراهية، ومردت على تتبع عورات البشر، وعاشت تمتص دماءهم الزكية، وأصبح الحديث في الآخرين قوتها وفراشها.
كلنا نرقب ـ بأسى ـ ما يجري في الخارج القريب منا، الذي لا شك بأن له تأثيرا على الداخل، ولو كنا نعيش في جزيرة نائية في عمق المحيط الهادي لتأثرنا، فما عاد العالم قرية صغيرة كما كان يقال، بل أصبح شاشة صغيرة تختصر المسافات، والأفكار، والأديان، والعادات، والخبرات.
والاشتغال بأمر ما يجري في الخارج من واجب المعرقين في دهاليز السياسة وأنفاق عروق الاقتصاد وما ينداح من بؤرة كلٍ منهما. وواجبهم أن يقدموا ـ لأهلهم في الداخل ـ رؤيتهم بحيادية تامة، دون مخلفات قديمة تجعلهم يغيبون عقولهم، ويتحدثون بما لا يحسن في الزمن الذي تشعله كلمة واحدة، لا يلقي لها بالا، ربما هوت به في النار سبعين خريفا. بل عليهم أن يبرعوا في تقديم التحليل المنصف، وأن يسهموا في التخفيف من معاناة من تربطنا بهم أخوة الدين في كل مكان، وأن يرفعوا عنا الإثم في كل ما هو فرض كفائي على الأمة، وأن يحددوا لنا ما يمكن أن نسهم به، دون أن يكون لذلك ضرر على الداخل.
نعم أعدُّ الحفاظ على أمن (الداخل) في بلادنا، وحراسة مقدَّارته دينا أدين الله تعالى به، ولذلك فإن من الواجب على آخرين أن يصبوا كل اهتماماتهم على تنمية البلد، ووقايته من كل الظواهر الفكرية المنحرفة، أو المعتقدات الباطلة، أو السلوكات الشاذة، وأن تؤسس لذلك المؤسسات الخاصة بكل ظاهرة، كما يجب تفعيل الدور الذي تنهض به المؤسسات الرسمية التعليمية بالذات، بخطط جديدة، وبرامج محدَّثة، تلتزم بشريعة ربها، وتُواكب مستجدات العصر الذي يدفعنا دفعا إلى الأمام، ونحن لا نضمن سلامة هذا (الأمام).
السهر على سلامة النسيج الاجتماعي والوطني يجب ـ في نظري ـ أن يأخذ الأولية عند من يعمل من أجل مستقبل دينه، ومستقبل أمته، ومستقبل وطنه، ولن يسلم هذا النسيج إلا وفق المنهج الرباني الذي أنزله من خلق الإنسان، علمه البيان، وأي عبث بهذا المنهج لهوى أو اقتناص فرصة شاردة، هو عبث بالأسس، وهنا تكمن الخطورة.