الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 / 24-جمادى الأولى-1446

عالم أطفال الشوارع!



موقع المستشار – منى ثابت.

في أول دراسة أكاديمية في العالم العربي تتناول من منظور نفسي “أطفال الشوارع” الذين يقيمون في الشارع بالفعل، راحت الباحثة الدكتورة رضوى فرغلي تسلط الضوء على أكثر من مليوني طفل في مصر وحدها، يحتاجون لثورة مجتمعية داخلية تعبر بهم إلى بر الأمان.
تقول في مقدمة دراستها “أطفال الشوارع.. الجنس والعدوانية”: أطفال الشوارع تركوا في داخلي رغبة قوية في استكشاف واقعهم، ومساندتهم قدر استطاعتي.. بينهم رأيت مجتمعاً آخر صنعوه على أنقاض إنسانيتهم.. مجتمعاً مشوهاً، لكن من الصعب اختراقه أو التمرد عليه.


اخترعوا لأنفسهم عالماً معتماً يتلقف العضو الجديد حديث العهد بالشارع بطقس (الاعتداء الجنسي)، ليصبح الجنس أولي خطوات الاندماج فيه، وبالتالي يكون العدوان على الذات والمجتمع أول رد فعل للامتهان المقبول ظاهريّاً والمرفوض لاشعوريّاً.
في مجتمعهم المهمش، زواج وطلاق، وتقسيم طبقي، وتقاليد ومبادىء لا يفلت المخالف لها من العقاب الشديد، دون أن يجد قانوناً يحميه أو يدافع عنه لأنه ببساطة يعيش في مجتمع خلق لنفسه قانونه الخاص.

وعن كيفية الاقتراب من عالم أطفال الشوارع تقول د. رضوى: معهم راهنت على شيء واحد نجحت فيه كثيراً في تعاملاتي مع الناس، ألا وهو نقطة الضوء داخل النفس البشرية، أو الجزء ‘النظيف’ في الإنسان؛ لأنني أعتقد أن أي شخص مهما كان مشوهاً أو عدوانيّاً أو حتى مجرماً، تبقى ثمة مساحة بيضاء في شخصيته لم تُلوَّث، إن أحسنَّا اكتشافها سننجح غالباً في التعامل الإيجابي معه والتأثير فيه، أو على الأقل التواصل الآمن معه. كما أن تقبل الآخرين دون شروط، وعدم سجنهم في أحكامنا المطلقة، والتعامل معهم بمحبة صادقة، تجعل التواصل معهم سهلاً، والعلاقة أقرب إلى النجاح. على أية حال هذه الطريقة أثبتت فعالية في معظم الأحيان.

وتؤكد أن الفقر والجهل والتفكك الأسري وسياسات الأنظمة الفاشلة التي استبدت بشعوبها فلم توفر لها الحد الأدنى من كرامتها الإنسانية، من أهم أسباب خروج الطفل للشارع.
وحول إمكانية معالجة هذه المشكلة بسن المزيد من التشريعات والقوانين تقول د. رضوى فرغلي: المسألة ليست في القوانين وحدها بدليل أن معظم الدول موقعة على الاتفاقيات الدولية التي تحمي حقوق الإنسان والطفل والمرأة! ومع ذلك تنتشر بها كل أشكال الإساءة لهم واهدار حقوقهم، لأن الموضوع مرتبط بنجاح أو فشل هذه الأنظمة المترهلة في توفير الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب وتعليم وصحة وأمن ووعي ثقافي للناس يحميهم من استغلال أطفالهم في العمالة أو اخراجهم من التعليم أو طردهم للشارع، ما الذي يجبر أسرة على تشغيل أولادها وبناتها غير الفقر والعوز غالبا، وفي حال توفير الدولة لاحتياجات المواطن ووجدت تجاوزا من جانب بعض الأسر وقتها يحق لها تطبيق القانون وعقابهم.. الأهم هو القانون الداخلي المحفور في الوعي والضمير وليس القانون المكتوب على الورق الذي يفقد مصداقيته وفاعليته بسبب الظروف السلبية المحيطة.

وعن الحل والمخرج من أزمة أطفال الشوارع تقول: العلاقة الآمنة التي يسودها الدفء والحب بين الطفل ووالديه، تمثل عاملاً واقياً للفرد يؤدي إلى شعوره بالكفاية والثقة والقدرة على المواجهة والتحدي، وتجعل نظرة الطفل لذاته وللآخرين وللمستقبل إيجابية، فالطفل الذي يدرك استجابة الوالدين لحاجاته وتقديرهما وحبهما له، وعدم تحكمهما فيه كثيراً، يكون لديه نموذج تصوري عن ذاته أنه محبوب وذو قيمة ويستحق الرعاية والثقة وكذلك يكوّن تصوراً عن الآخرين بحيث يشعر أنهم يقدرونه ويحبونه ويحترمونه، وأنه يمكن الوثوق بهم، وأنهم سيكونون بجانبه عندما يحتاجهم، وبالنسبة للمستقبل، يشعر بالتفاؤل والأمل. هذا بينما يدفع إدراك الطفل لعدم حب الوالدين له أو عدم احترامهما له، أو إهمالهما له، أو تحكمهما فيه إلى تكوين نماذج معرفية سلبية عن ذاته وعن مستقبله والآخرين، فيكون تصوره عن ذاته أنه (غير محبوب – ليست له قيمة – لا يستحق الرعاية – غير جدير بالثقة) كما يتوجس من الآخرين ويشعر بالتهديد والقلق منهم، كما يشعر بالتشاؤم تجاه المستقبل .

والأمهات الواعيات يستطعن تجاوز الظروف الاقتصادية والاجتماعية المنخفضة وإحاطة أطفالهن بالحب والرعاية النفسية التي تعوضهم أي نقص مادي، خصوصا أن الإيذاء النفسي للأبناء ليس حكرا على الأمهات الفقيرات. وهنا تلعب التوعية النفسية والعاطفية دورا مهما في تعريف الأم (والأسرة كلها) بأن العلاقات الإيجابية بين الطفل وأمه من شأنها أن تجعل الطفل في مأمن من أن يقع ضحية السلوك الجانح مستقبلاً؛ وهذا ما دعا بعض المجتمعات المتقدمة إلى تحفيز الأمهات مادياً؛ للاهتمام بأطفالهن في بيوتهن والسهر على تنشئتهم تنشئة سليمة؛ ليكتسبوا مناعة ضد جميع السلوكيات المنحرفة؛ ويصبحوا مواطنين صالحين لأنفسهم وأوطانهم.

والحقيقة أن للأم دورين مزدوجين، أحدهما بيولوجي والآخر وجداني، فعلاقة الحب المستمرة مع الأم في السنوات الأولى ضرورية إذا ما أريد للطفل أن يصبح قادراً على تشكيل علاقات ناجحة. فالطفل الذي حرم من الأم، أو بديلتها، في مطلع حياته يصبح ‘متبلد الطباع’، وسوف ينعكس ذلك في تفاعله مع الآخرين.
وعن خطورة ترك الأطفال في الشارع تقول د. رضوى: الشارع أكثر قسوة وإيلاما من أي تشبيه أو توصيف. وما يحدث لهؤلاء الأطفال في الشارع يفوق كل توقعاتنا وخيالنا للأسف. ففي جنوب افريقيا يطلق لفظ ‘الأرانب’ على الرجال المستغلين جنسياً للأطفال، أما النساء المستغلات فيطلق عليهن ‘المومياء’. يحومون بسياراتهم في الشوارع وحول المؤسسات لاصطياد الفريسة. وهي ظاهرة موجودة في كل البلاد المنتشرة بها الظاهرة ولكن بمسميات مختلفة، وغالباً ما يستجيب الأطفال الذين يضعفون أمام الإغراءات المادية، رغم ذلك يصعب إثبات الاتهام بالاستغلال الجنسي بسبب قلة المعلومات المتوافرة، وخوف الأطفال أن يدخلوا أنفسهم في مشاكل. ويعتبر الاستغلال الجنسي داخل العائلة جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الإيذاء الذي يتعرض له الطفل، لكن من الصعب علي الأطفال إفشاء مثل هذه الخبرات خوفاً من أهلهم. أما داخل الملجأ أو المؤسسة فيتعرض الأطفال إلى الاستغلال من قبَل بعض الموظفين أو المتطوعين أو الأطفال الأكبر سناً، وإن كان القانون في هذه الحالة واضحاً ويعاقب من تثبت عليه التهمة، لكن المشكلة هي تعرض الأطفال للإرغام والتهديد بعدم البوح بمشكلاتهم أو اتهام شخص ما، إضافة إلى تواطؤ بعض الأطفال أحياناً ورغبتهم في إشباع رغباتهم.

وتضيف: القضاء على هذه الظاهرة ليس أمرا سهلا لأنه مشكلة متشابكة الأسباب والنتائج، وحلها جذريا يستدعي حل الأسباب الإقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية والثقافية التي أدت إليها. كما أن هؤلاء الأطفال يتعاملون باعتبارهم مجتمعا موازيا له خصائصه ومشاكله. إضافة إلى أن معظم الجهود المبذولة قاصرة ولا تحقق النتائج المرجوة. لكن على أية حال، هناك عدة توصيات خرجت بها من خلال تعاملي المباشر مع هؤلاء الأطفال، منها:

– تفعيل دور الوزارات والهيئات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني في تنفيذ الاستراتيجية القومية لحماية الأطفال المعرضين للخطر، حتى تسفر عن نتائج حقيقية ملموسة تحد من خروج الطفل للشارع، وتوفر له الرعاية المطلوبة أثناء إقامته الدائمة فيه.

– إعداد برامج تدريبية لكل صناع القرار والهيئات والمؤسسات
المعنية بالظاهرة وأفراد الشرطة وتدريبهم وتوعيتهم بالرؤية السليمة لأطفال الشوارع وطرق المعاملة الملائمة لهم، وبأن هؤلاء الأطفال ضحايا لظروف ليسوا مسؤولين عنها وأنهم ليسوا مجرمين أو جانحين بطبيعتهم.

– تضمين مشكلات أطفال الشوارع في المناهج التعليمية في إطار
الرؤية الإيجابية لهم وكيفية مساندتهم.

– تدريب وتأهيل كوادر متخصصة كافية للتعامل مع هؤلاء
الأطفال، لأن معظم المتعاملين معهم من المتطوعين، ومع احترام هذا الدور التطوعي، إلا أنه يحتاج لتطوير وتدريب علمي يساعدهم أكثر على دعم هذه الفئة وتدريبها نفسياً وسلوكياً واجتماعياً وتعليمياً.

– زيادة المراكز النهارية وتزويدها بالمؤهلين علمياً للتعامل مع
أطفال الشوارع.

– رعاية أسر هؤلاء الأطفال وتدريبهم وتوعيتهم وتوفير مصادر
دخل لهم تساعدهم في حال عودة الأطفال إليهم، وتحمي باقي الأطفال من الخروج إلى الشارع.

– دمج أطفال الشوارع في المجتمع من خلال بعض الأنشطة
والفعاليات التي تشعرهم بالانتماء للمجتمع وتخفض من شعورهم بالنبذ وتحد من الشعور بالعدوان تجاه الآخرين.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم