يؤكد عدد كبير من الفلاسفة عبر التاريخ على أهمية البعد التربوي للفلسفة وأهمية البعد الفلسفي في التربية ذاتها. وهذا ما نجده عند سقراط Socrate وأفلاطون Platon وسان توماس Saint Thomas وكانط Kant وهيغل Hegel وديوي Dewey وغرامشي Gramsci. وغني عن البيان أن هؤلاء الفلسفة كانوا يؤكدون هذه العلاقة الجوهرية بين الفلسفة والتربية في أعمالهم ونظرياتهم الفلسفية. ولكنهم كانوا في حقيقية الأمر يتناولون هذه المسألة ويبحثون فيها من زوايا واتجاهات نظرية خالصة. وهنا يمكننا الإشارة إلى الصيغة التي يتبناها كانط حيث يقول: لا يمكننا أن نتعلم الفلسفة بل يمكننا أن نتعلم التفلسف، ويريد كانط بهذا القول أن يعلمنا بأن الفلسفة علم لم ينجز بعد، وهو في حالة تطور لا تتوقف حركته أبدا، ولكنه يمكننا أن نتعلم في حقيقية الأمر ممارسة الفلسفة وتوظيف مقولاتها ومنطقها ورؤاها ومنهجها في حياتنا الفكرية وهذا يعطينا إمكانية الحكم والتأمل المنهجي والنظر أو ما يسمى بخاصة التفلسف.
وهكذا نجد أن سقراط وليبمان وكانط جميعهم يتفقون على أن الفلسفة قابلة للتعلم بوصفها ممارسة وليس مجرد مادة مجرة. وهم في هذا السياق يعتقدون بأن إحدى القيم الأساسية لهذه الممارسة الفلسفية تأتي من هذه الفكرة التي يتوقف فيها الناس عن الاعتقاد بأنهم يعرفون وأن معرفتهم نهائية ومطلقة. فالممارسة الفلسفية هي نوع من المشاركة والحوار والبحث الإنساني، وبالتالي فإن التجربة الفلسفية تنبع من هذا الحوار المفتوح غير المتوقع، حيث تكون الأسئلة الحيوية والجوهرية مطروحة دائما لمخاطبة العقل الإنساني وملكاته الفكرية الحيوية.
وإذا كان ليبمان يؤكد الأهمية الكبيرة للعلاقة بين الفلسفة والتربية على منوال سقراط، فإن الجدة والأصالة الفكرية التي يتميز بها تقع في مجال التأكيد على هذه العلاقة الجوهرية بين الفلسفة والطفولة. وفي هذا المجال فإن ليبمان يستحق أن يكون مجددا ومبدعا وذلك لأنه يطرح فكرة متأصلة في الفكر سابقا في مستواها النظري، ولكن يندر أن نجدها في طور الممارسة التي يحييها حيث لم يسبق لأحد مسبقا في تاريخ الفكر مطارحة مسألة الممارسة الفلسفة في تربية الأطفال.
تقتضي الممارسة الفلسفية للأطفال وجود معلمين يمتلكون القدرة والمهارة في مجال معالجة الأفكار وتداولها وممارستها على نحو فلسفي؛ معلمون قادرون على تقدير الحوار وممارسته وتوجيهه في نسق الخيارات التربوية والفلسفية الممكنة في إطار احترام الطفولة نفسها وتقدير الجوهر الإنساني للأطفال. هؤلاء المعلمون يمكنهم التعامل مع طائفة من الأطفال في داخل الصفوف. والعمل في الصف هنا يجب أن يجري بصورة ممارسة تربوية حيث تأخذ العلاقة بين الأطفال صورة اجتماع متعاون يتم فيها التداول والجدل والحوار التربوي بروح فلسفية، حيث يجتمع الأطفال في الصف كأشخاص يمارسون التفكير والحياة القائمة على التساؤل والحوار والتكامل والاحترام.
في هذا الوسط المدرسي لا تأخذ المعرفة صورة معرفة تقتضي من الطفل أن يتعلمها شخصيا، وعلى خلاف ذلك فإن هذه المعرفة تأتي نتاجا لممارسة جمعية بين مختلف أفراد الصف أو الجماعة عبر التساؤل والحوار والتفهم. وهنا تأخذ الديمقراطية كنظام أو كطريقة في الحياة الاجتماعية داخل الصف حضورها وهذه العلاقة الديمقراطية تكون جوهر وغاية الجماعة في الصف أي جماعة الأطفال: وهذه العملية الديمقراطية تمثل الطريقة الأمثل لممارسة الروح الفلسفية في عالم الطفولة والأطفال.
ولكن كيف تتم هذه الممارسة الديمقراطية بروحها الفلسفية؟ ما هي أبعادها وطبيعتها؟
في هذه الممارسة الفلسفية يمكن للمعلم أن يجلس مع والأطفال في صورة دائرة في قاعة الصف، ويقوم المعلم بقراءة نص أو فقرة تتضمن خبرا أو مادة فكرية. وبعد ذلك يتم بناء مجموعة من الأسئلة والتساؤلات حول النص المقروء، ثم يجري الحوار بين الجماعة حول هذه الأسئلة، على أساس الحوار المنهجي المنطقي ومعاييره الأساسية.
دور المعلم :
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما الدور الذي يلعبه المعلم في هذه الوضعية المفترضة ؟ ومما لاشك فيه أن المعلم هنا يؤدي دورا نموذجيا. في هذه الوضعية يشارك المعلم بحماسة في الحوار ويعمل على توجيهه وتحريضه وإثارته، كما يعمل أيضا على تسهيل مجريات الحوار بين الأطفال. المعلم في وضعيته هذه يجب ألا يقدم إجابات بل يستثير التساؤل ويحرض عليه، كما يتوجب عليه أن يساعد الأطفال على احترام وجهات النظر الأخرى لأفراد الجماعة، ويساعد الأطفال على احترام القواعد الأساسية للحوار بين افراد الجماعة أو المجموعة.
وخلال الحوار فإن المعلم يستخدم الأدوات التي يقتضيها الكتاب المدرسي : مخطط المناقشة والحوار وذلك من أجل تعميق فهم الأطفال بالمفاهيم الفلسفية وبالممارسات التي تؤدي إلى بناء المهارات المعرفية والمنطقية عند الطفل .كما يعمل على إعادة بناء مضمون الحوار ثم يعطيه مضمونا سائغا يتميز بالبساطة والوضوح والتكامل. وتأخذ هذه العملية من قبل المعلم صورة تحكيم يتعلق بمضمون الحوار دون أن يتخذ موقفا مسبقا ومحددا من مضمون الحوار نفسه، لأن اتخاذ هذا الموقف قد تترك انطباعات سلبية غير منطقية أو فلسفية في تفكير الأطفال.
ولكن كيف يستطيع معلم من غير تأهيل فلسفي أن يؤدي هذه المهمة الفلسفية ؟ ببساطة يمكن تأهيل هؤلاء المعلمين عبر دورات تربوية مكثفة في أحضان المدرسة ذاتها وعبر جلسات وسيمينارات يشرف عليه ويوجهها متخصصون في الشأن الفلسفي.
ومع أهمية هذا التدريب والتعليم القصير الأجل للمعلمين من أجل ممارسة التربية على أسس فلسفية فإن هذه الفكرة تستثير القلق. إنه لمن الصعوبة بمكان نظريا القول بأنه يمكن بناء المعلم الفيلسوف بهذه السهولة التي يمكن له فيها أن يتجاوز العقلية التقليدية للتعليم وأن يمتلك هذه القدرة على تأصيل منج فلسفي جديد.
إن الصعوبة الرئيسة التي يواجهها هذا النهج في الممارسة التربوية للفلسفة تكمن في غياب القدرة على ترجمة النصوص الفلسفية إلى مواد وتبسيطها بحيث يمكن للطفل أن يفهمها ويناقشها في آن واحد. ومن أجل هذه الغاية يمكن للمعلم أن يكتب قصصا يكون أبطالها من الأطفال، ويراعى في ذلك أن شخصية الأطفال في النص مساوية للمستوى العمري نفسه للأطفال في الصف. وأن يراعى في هذه القصص أن تتبنى الحوار السقراطي أو أن تكون قابلة للتصريف في حوار فلسفي من طبيعة سقراطية. وهذا يعني أن تكون هناك أسئلة من غير إجابات محددة ونهائية عنها. وبالتالي فإن شخصيات النص يمكن أن تأخذ صورة عقلانية للسلوك الإنساني، حيث لا يكون هناك أي قطيعة عنيفة في دائرة الحوار في داخل النص. ومن الضرورة بمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن الكتب المدرسية تحمل كثيرا من النصوص المجانسة لهذه التي نتحدث عنها، حيث يمكن أن تؤخذ هذه النصوص كنماذج حية للحوار الفلسفي في داخل الصف. وهذا يمكن المعلمين من تعزيز قدرة الأطفال على الحكم والتساؤل والحوار الفلسفي والمحاكمة المنطقية.
وهنا يمكن القول بأن العلاقة القائمة بين النص وبين الفلسفة يمكنها أن تأخذ صورة علاقة أداتية غائية في جوهرها. فالنصوص والقصص لا تأخذ هنا قيمة في ذاتها أبدا بل هي أداة لقيمة فلسفية محددة بصورة مسبقة. وهذا يعني بأنه يمكن إسقاط مضامين هذه النصوص واستبعادها حالا بعد أداء المهمة الفلسفية في بناء الحوار الفلسفي المطلوب. ومع ذلك كله فإنه لمن المفضل أن تكون مضامين هذه النصوص إيجابية ومشبعة بالمعاني الجمالية والروحية ومتساوقة إلى حد كبير مع الروح الفلسفية للمحاكمة والحوار. وغني عن البيان أيضا أن هذه النصوص يجب أن تتوافق وتتوازن مع مستويات التطور السيكولوجي للطفل في كل مرحلة عمرية. والمهم جدا في هذه النصوص أن تكون داعمة لمسألة الحوار الفلسفي المطلوب بين الأطفال.
ومما لا شك فيه أن مثل هذا البرنامج الفلسفي للتربية ينطوي على عدة نقاط سلبية تتصل بالنموذج التربوي المطروح عينه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما مدى مشروعية هذا النموذج وكيف يمكنه أن يحظى بالمشروعية ؟ كيف يمكن بناؤه أيضا وتحويله إلى ممارسة حيّة؟ وهل يتوافق هذا النموذج مع نزعة الطفل إلى الاستقلال ؟ وكيف نتصرف مع الأطفال الذي لا يمنهم التكيف مع هذا النموذج التربوي ؟ هذه أسئلة تطرح نفسها حول معطيات هذا النموذج التربوي.
ويضاف إلى ذلك أيضا أن الموضوعات التي يفترضها هذا التدريب على التفلسف هي موضوعات كلاسيكية من تاريخ الفلسفة، وهذا التاريخ الجزئي يمكن أن يكون موضع مناقشة وتساؤل وارتياب بين الباحثين والمفكرين. وهذا يعني من جهة أخرى أم المشكلات الحياتية والفلسفية المعاصرة لن تكون حاضرة في مثل هذا البرنامج أو التجربة الفلسفية. وكما لاحظنا فإن انتقاء النصوص عبر هذه التجربة ليس منهجيا بل يعتمد على مجرد المصادفة الخاصة. وهذا النموذج يفترض أن موضوعات الفلسفة واحدة في كل زمان ومكان، وهذا ينسحب على مشكلاتها وقضاياها.
وهنا يتوجب على المتخصصين في مجال الفلسفة ابتكار المادة، وتحديد الطابع الفكري لها. ويأتي دور المدرسين الذين يطبقونها في برامج عملهم. وهذا يعني أن المدرسين يطبقون أفكار ونظريات أبدعها آخرون. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يمكن للمدرسين من تجنب التأثر بنصوص غريبة عنهم ؟ وكيف يمكن طرح الأسئلة حول أسئلة طرحها الآخرون؟ وهذا يعني في نهاية الأمر أن تطبيق المناهج يدين منفذيها ويدفعهم إلى موقف غير فلسفي. إذ كيف يمكن توحيد المسائل المختلفة التي تولد في معترك الحوار والجدل؟ وكيف يمكن تعميم مختلف وجهات النظر ؟ وكيف يمكن صدّ الجديد الذي ينبثق ؟ تلك هي المشكلات التي تفرضها الكتب المدرسية.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن اعتماد الكتب المدرسية موضوعا للممارسة الفلسفية يبدو لنا أمرا متناقضا في ذاته : فالممارسة التي تنبثق عن الفلسفة ذاتها لا يمكن أن تبدو واضحة لذاتها بيّنة بمعانيها الذاتية. إن المشاريع الفلسفية التي نطرح غالبا ما تأخذ طابعا سياسيا قوامه تحقيق الديمقراطية. وهنا نجد أنفسنا أمام موقف إشكالي يختنق بالتناقض قوامه : من غير الديمقراطية لا توجد هناك فلسفة، ومع الديمقراطية هناك فلسفة لا تضع القضايا الديمقراطية في محط التساؤل. وهنا نجد بأن الفلسفة تخضع لمآرب وغايات سياسية فتضع نفسها بعيدا عن التناول الفلسفي. وهنا يمكن القول بأنه لا يوجد هناك تجديد فلسفي في فلسفة تسعى إلى تحقيق أهداف خارجة عنها.
فالنص الجيد لا يمكن التنبؤ بجماع معانيه، والنص الذي يتصف بالغنى يعطي مساحة أكبر للتساؤل. وهنا نجد المناظرة الحقيقية وجها إلى وجه بين الفلسفة والأدب، وليس لأحدهما بالطبع أن يملي على الآخر قانونيته الخاصة لأن ذلك يؤدي إلى عملية تشويه وضرر.
خلاصة :
إن الفلسفة منهاج يعمل على بناء أفكار تربوية ويحرض على التأمل والبحث والنظر. وهذه الفكرة جديدة إلى حدّ ما وذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار أننا نضع بين يدي الأطفال شيئا جديدا للتفكير والتساؤل وهي فكرة لم يسبقه إليها أحد : وهذا الجديد يتمثل في ممارسة الفلسفة. ولكن العمل على وضع هذه الفكرة في إطارها المؤسساتي يفقد عنصر الجدة والابتكار.
في الفلسفة لا يوجد هناك حلول سحرية، لأنها ممارسة فكرية معقدة وصعبة، إنها نشاط يحيل ذاته إلى دائرة التساؤل. حيث لا يمكن لأحد ما أن يستبق تساؤلات الآخر، وليس لأحد ما أن يتفلسف من أجل الآخر.
والفلسفة يمكنها أن تكون أداة حرية وتحرير لأنها تعطي مساحة كبيرة للتساؤل. ويمكنها أيضا أن تسمح للأطفال بالتفكير بأنهم في مرحلة تاريخية محددة وأن تجعلهم يفكرون في ذاتيتهم. وبهذا المعنى فإن المعلم المبدع هو الذي يساعد الأطفال على التفكير ويحسهم على التأمل. وهو من أجل ذلك يجب عليه أن يتحرر من قهر الأنظمة التقليدية القائمة وأن يخرج من عباءة المناهج الكلاسيكية ويرفض أدواتها .
ونحن لن نكون مجددين أبدا إذا عملنا على تأصيل أنظمة أخرى سابقة لأن ذلك يؤدي إلى نتائج سلبية في الحياة التربوية. وهذا يعني أنه لا يوجد منقذون في التربية بل هناك ضرورة لطرح إشكاليات وتجارب وممارسات: التفكير الجاد والتساؤل الحر في القضايا والمسلمات والطروحات من غير الخضوع لنماذج فكرية محددة.