الأثنين 23 ديسمبر 2024 / 22-جمادى الآخرة-1446

ضغوط الحياة



ضواغط الحياة كثيرة.. ما في ذلك شكّ.. وهي جزء لا يكاد يتجزّأ من حياة كلّ منّا، ومَن يقول لك إنّه لم يتعرّض في حياته لأيِّ ضغط فلا تصدِّقه.والضغوطات إما داخلية.. يستشعرها الإنسان من جرّاء الاحتقان النفسي الذي يحصل من كلمةٍ جارحة، أو إهانة، أو إحساسٍ بالعجز والفشل، أو أيّ موقف مُحرج، يترك أثره السلبي على النفس فيكدِّر صفاءها.
وإمّا خارجيّة.. وما أكثرها.. ضغط الدِّراسة من أجل النجاح.. وضغط المنافسة من أجل التفوّق.. ضغوط الحياة المعيشيّة وتحسينها.. ضغوط الأسرة وعادات المجتمع وتقاليده، وضغوط الحكومات والأنظمة.. والقائمة طويلة.فالضّغط[1] هو كلّ ما يثقل كاهل الإنسان ويرهقه ويسبِّب له دوّامة من الصِّراع أو الصِّداع والألم النفسي، ويؤدِّي إلى الضِّيق والاختناق مما يضطرنا إلى البحث عن متنفّسٍ أو حلٍّ نهائي يرتفع معه الضغط ويزول.

– فوائد الضّغوط:
هل لاحظتَ أو جرّبت أنّك إذا ضغطتَ على كرةٍ من المطّاط، فإنّها سترتفع إلى الأعلى، حسب قاعدة الفعل وردّ الفعل.. أنتَ ضغطتها إلى الأسفل؛ لكنّها عاكستك وارتفعت إلى الأعلى؟!
وهل انتبهتَ وأنتَ تضغط الأزرار إلى الداخل، كيف أنها لا تتوارى خجلاً من انسحاقها تحت ضغطتك أو كبستك لها، بل تراها تردّ ردّاً إيجابيّاً في أن تعطيك نوراً أو إشارةً أو صوتاً منبِّهاً، أو علبة حلوى أو عصير من ماكينة أو جهاز يعمل بنظام الأزرار؟!
هل طلبت منك معلِّم اللّغة العربية – ذات يوم – أن تضغط جملة طويلة في أخرى قصيرة، أو دعوة جمل في جملة واحدة، أو نصّاً في سطور.. لقد حاولت ونجحتَ في أن تتخلّص من أكثر الحشو والزوائد والأقل أهمِّية في عباراتٍ مكثّفة..

ضغوطات الحياة شأنها أن تجلب معها الألم والمشقّة وصداع الرأس والضِّيق والتبرم والتأفّف.. لكنها تحمل معها أيضاً (روح الفرج).. ألم تسمع إلى المتفائلين يقولون: “أزمة ضيقي تتفرّجي”.. إنّهم يستوحون ذلك من تربية ربانية، تقول: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح/ 5-6). “الفرج” ملازم ومصاحب لـ”الضِّيق”.. قد لا تراهُ، لكنّه هناك!! والقوّة كما الضِّيق ملازمة ومصاحبة للضّغط والإنضغاط.

كلّنا ضغطت علينا الإمتحانات المدرسية بقوّة وبقسوة أحياناً، فأسهرت ليلنا وأتعبت نهارنا، ولكنّها وهي تقترب من موعدها تتحدّى فينا أقصى انتباهنا ووعينا وذاكرتنا وحافظتنا وأملنا في تحقيق النجاح والتفوّق، وصولاً إلى مقاصدنا التي نحلم بها.
الفقير الذي ضغط عليه فقره فاستخرج أنبل ما فيه، فاضطرّه إلى البحث عن عملٍ شريفٍ يكسب فيه قوته، ويعفّ نفسه عن السؤال، ربّما يشكر لهذا الفقر تلك الحسنة في أنّه حوّله من (خامل) إلى (عامل) ومن (عاطل) إلى (مناضل) ومن (فقير) إلى (أجير)، ومن (أجير) إلى (مدير).. وربّما.. من (مدير) إلى (وزير).. وربّما.. ربّما من (وزير) إلى (أمير)!!

يجب أن تتغيّر نظرتنا إلى الضغوط باتِّجاهٍ إيجابي، أي على أنّها تأتي في طول مصلحتنا وليست في الضدِّ منها؛ لأنّها تستنفر قوانا الخيِّرة، وتنبش أقوى ما فينا من مدّخرات روحية ونفسية وثقافية، لنكون كذلك الذي ضغط عليه السِّجن بأن حرمه حرِّيّته، لكنّه تطلّع إليه بعد خروجه سالماً منه ليشكره قائلاً:

أنا لا أشكو السِّجنَ بل أشكرهُ **** فهوَ بالإخوان قد عرّفني

بل يرى زميلٌ له أن شدائد الحياة وضغوطها مشكورةٌ كلّها:
جزى اللهُ الشدائد كُلَّ خيرٍ **** عرفت بها عدوِّي من صديقي!

وليس هناك أقسى من غربة الإنسان عن وطنه، لكنّ ضغوط الهجرة التي تقتلعُ إنساناً من وطنه الذي لا يجد فيه حرِّيته ولا كرامته ولا معيشته، قاسية شديدة، لكنّ المهاجر وهو يرود الآفاق ويجوب الفضاءات التي تُتاح له في هجرته أو التي يلتقيها في رحلةِ وعيه ونشاطه، يحمد الله تعالى أنّه لم يبق أسير المحبس الضيِّق، ولم يركع تحت ضغوط الأمر الواقع..
الضغوطات مفجِّرات لكوامن الخير والعطاء والقوّة فينا.. والضغوط مهما كانت ثقيلة وصعبة وقاسية، فإنّها ليست ممّا يستحيل إزالته أو رفعه، فحتى الجبال الراسية القاسية تتحطّم وتُنسف وتتصدّع، وتُحفر فيها الأنفاق.

أُنظر إلى الخلف.. تذكّر موقفاً، أو عدّة مواقف ضاغطة مررت بها.. أين هي الآن؟
ربّما عانيتَ في رفعها وإزالتها الكثير، وهذا أمر طبيعي، فلكي تدفع أو ترفع شيئاً ثقيلاً لابدّ من قوّة أو طاعة معيّنة تتناسب وثقل الشيء المدفوع أو المرفوع.. وهي قوّة موجودة في داخلك.. قوّة مدخرة.. يمكن أن تنهض من رقادها في ساعات الشِّدة والأزمات الخانقة لتجابه التحدِّي الخارجي الضاغط، بتحدٍّ داخلي يساويه في المقدار، أو يزيد عليه، ويعاكسه في الاتِّجاه، وتلك هي المقاومة والصمود.. والصبر.

فعلى مقدار تربية وثقافة وتجربة واستعداد كل منّا يتحدّد حجم تلك القوّة، فمنّا مَن ينهار لأوّل ضغط، ومنّا مَن يبقى يقاوم لمرحلة معيّنة، ومنّا مَن يواصل المقاومة حتى النهاية.

تذكّر تجربة واجهت فيها ضغطاً ما:
– هل شعرت وأنت تواجه الضغط، أنك أكثر قوّة وقدرة ومناعة من السابق؟ أي من قبل أن يحاصرك الضغط ويشدِّد الخناق عليك؟
– هل شعرتَ وأنت تنتصر على الضغط، وتخرج مرفوع الرأس، أنّ بإمكانك – كما فتتّ هذا الضغط – أن تفتِّت أي ضغط غيره؟
– ألم تعطك تجاربك في مواجهة الضغوطات الحياتية المختلفة صورة أخرى عن (الضغوط) نفسها، وعن شخصيّتك أيضاً؟
– أما رأيتَ – مثلاً – أنّ بعض الضغوط أقل حجماً من المتصوّر، وأنّ بعضها وهمي تنتجه الخيالات، وأنّ بعضها يحتاج إلى شيءٍ من الوقت حتى يزول، وأنّ قسماً رابعاً يحتاج إلى مساعدة الآخرين لرفعه؟

إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة سوف تساعدك في معرفة ما يلي:
أ- إنّ الإستجابة السلبية للضغط تقهرك وتذلّك، وتوقعك في أسر الأشياء الضاغطة أو الأشخاص الضاغطين، وبالتالي تجعلك تشعر بالصِّغار والضّعف والانهيار.
ب- إنّ تقديم التنازل أمام أي ضغط، سوف يجرّ إلى المزيد من التنازلات التي تحطِّمك أن تحطِّم معنوياتك شيئاً فشيئاً، وتلك هي سياسة الخطوة خطوة، وهي سياسة الاستدراج الشيطانية: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة/ 208)، (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) (آل عمران/ 155)، (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (الناس/ 5).
ج- إنّك إذا استجبتَ للضغط فإنّك بذلك تعطي الفرصة للمستغلِّين والإنتهازيِّين والمتلاعبين بالعقول والعواطف أن يصادروا شخصيتك في أيّ وقت يشاؤون لأنّهم قد عرفوا من أين تؤكَل، ومن أيِّ نقاط الضعف ينفذون إليك.
ولذا لابدّ من أن تتعلّم كيف تقول (لا) للضغوط السلبية.

————————————
[1]- آثرنا الاكتفاء بالمعنى الاصطلاحي لأنّه أكثر أهميّة، وإلّا فالضغط في اللغة هو الضِّيق والقهر والاضطرار.

المصدر : البلاغ

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم