ولا يجرمنَّكم..
الدكتور خالد بن سعود الحليبي
في أتون هذه المحن والمنح، وفي خِضمِّ هذه البلايا والعطايا، يحار الحليم فيما يرى من تقلّب المواقف وتجدّد التصرّفات غير المدروسة العواقب في عالمنا العربي؛ من قبل دول وأحزاب وأفراد كانوا ولا يزالون محل تأثير في التاريخ المعاصر، مهما كانت مساحة الاتفاق والاختلاف مع أفكارهم وسياساتهم وأعمالهم.
لقد أخذت السياسة والطائفية والحزبية بنواصي عقول وقلوب، حتى أذلتها، صار العالم يتنكر لعلمه العريق، والعبقري لذكائه العميق، والسياسي لتخطيطه الدقيق، حتى المؤرخ بات لديه الاستعداد ليزوِّرَ بعض الأوراق؛ ليلوي أعناق المستقبل.
أمسى الاندفاع في دروب الشرذمة والمصالح الشخصية يمزق أوصال الدروب، حتى خشيتُ على أمة الإسلام أن يصيبها ما أصاب غيرها إذ مُزِّقوا كل مُمزَّق.
إذا ابتُليتْ أمَّةٌ بالنظرة الضيّقة في الأطر الواسعة، ودبَّ الشكُّ في مفاصلها، فقد آذنت بتفرّق كلمتها، ومهَّدت لمزيدٍ من الفرص النكداء لعدوها أن يخلع قلبها، لسببٍ تافه؛ هو أنها ستكون مشغولة بإجراء عمليات جراحية احترازية في جسدها، قد لا تكون في حاجةٍ إليها، ولكنه الوسواس القهري الذي يوهمها بما ليس لها فيه حاجة، بل قد تقطع عضوًا من أعضائها كان هو الرصيد لها في وقتٍ لم يحِن بعد.
وأقل ما يحدث في هذه الأزمات العالمية شديدة الخطورة، تبدّد الطاقات في المؤسسات المسكونة بالرعب من المستقبل، وانشغالها بالتلاوم والتنابز فيما بينها، فتبقى محصورة في قوقعة الخوف الذي يفتك بأعصاب قوتها، بل قد تقوم بتصديق التشكيك فيمن هم سندها؛ فتكون كمن قطع يديه، وفجَّر سلاحه، ثم سار إلى ميدان الصراع، أعزل، وهو يظن أنه تخلص من عدوه الأخطر.
يفجع المفطور على حب الوفاق وحسن الظن من مواقف هؤلاء وهؤلاء، ويظل العويل يصرخ في داخله، يتمنى أن يسمعه الآخرون، ولكن هيهات، والظنون تندلع ألسنتها اللاهبة كما تندلع ألسنة الثعابين وهي تبحث عن فرائسها، وكما تتلمظ ألسنة اللهب إلى كل ما حولها لتخنق الحياة في داخله.
إن الاختلاف لا يعني ـ أبدًا ـ عداوة المخالف، إلا إذا بارز بالعداوة، ورفع السلاح، وحوَّل النصح إلى تصيّدٍ للأخطاء، وسُبلٍ للإيقاع، هنا يمكن اتخاذ كل الإجراءات لردعه، وقمعه، دون التعدّي على غيره، وفي مثل ذلك يقول المولى (جلَّ وعزَّ): {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{
إذن ممن نحذر؟ {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الممتحنة[
في كل عضوٍ قوة، واستثمارها خير من بتره.