لا تنهزموا لأبنائكم ولا تهزموهم.. قفوا معاً !
لا نشك حالياً في أن نسبة الآباء الواعين بأهمية دورهم التربوي في العالم الإسلامي لا تزال ضئيلة وضئيلة جداً. وهذا ما يؤكد على أن تربية هؤلاء عن طريق التوعية والتحسيس أصبحت من الأمور الملحة، بحيث صار من الضروري تفادي خطاب الوعظ والنصائح والتشبث بالخطاب المبني على إنتاج استراتيجيات جديدة، قوامها التوفير الجيد للمحيط الذي سيحفز الطفل من الناحية المادية والثقافية والسلوكية على صناعة نموه الشخصي وعلى تحقيق تكيفه الاجتماعي.
وأحسن ما يمكن القيام به في هذا النطاق هو توفير مختلف المواد والوسائل التثقيفية المتنوعة للوالدين قصد توعيتهم بأهمية دورهم التربوي وخطورته من خلال استراتيجيات تطبيقية يتسلح بها المربي وهذا ما بيناه سابقاً ونستمر في تأكيده وتأصيله.
إستراتيجية الممارسة المرنة :
إن المقصود بهذا النموذج هو تلك السلوكيات الثابتة أو القواعد العامة لبعض الآباء والتي يمكنها أن تعدّل حسب الظروف بحيث لا بد للطفل أن ينام مثلاً في وقت محدد، ولكن إذا كان يوم الغد عطلة يمكنه أن يسهر، ويشاهد برامج إيجابية حينما يرغب لكن باحترام بعض الشروط ومنها نوع البرامج ثم زمن ومدة المتابعة.
وبإمكانه أن يزاول الأنشطة التي يرغبها ولكن بشروط. وهذا يعني أن القواعد ليست هنا جامدة بل تتكيف تبعاً للظروف والأحداث. وإذا كانت هذه الممارسة تمثل في آن واحد خاصيات الممارستين الصارمة والضعيفة، فإنها تعد أكثر ملاءمة للتربية الهادفة.
والحقيقة إن نموذج الممارسة المرنة هذا هو الذي يعكس مواصفات الممارسة التربوية الوالدية الصحيحة التي توفّر الإشباع المنتظم لحاجيات الطفل والمتمثلة في المرونة، والحرية، والتقبل، والتسامح، والعدل، والحوار، والالتزام، والدفء الوالدي.
فالطفل الذي يترعرع في كنف هذه الممارسة التربوية المرنة عادة ما يتميز بسمات الشخصية السوية المتمثلة أساساً في الثقة في النفس والتقدير العالي للذات وتحمل المسؤولية والشعور بالأمن والكفاءة في التحصيل وفي التواصل والمهارة في حل المشكلات ومواجهة مواقف الحياة المختلفة.
تجمع نتائج أغلب الدراسات السيكولوجية، الغربية والإسلامية، على أن نموذج الممارسة التربوية المرنة يتميز بتأثير إيجابي أكثر من نموذجي الممارسات الضعيفة والصارمة.
التعامل مع الغاضبين الصغار:
هل قضيت وقتاً ممتعاً مع طفلك اليوم في نزهة، أو تجوَّلتما معاً في صباح يوم مشرق، لكن الوقت قد حان للرحيل، وهو لا يريد العودة؛ يصرخ.. يبكي.. ثم يصيح وقبل أن تستوعبي الأمر، يرتمي على الأرض.. يضرب بقدميه، ويصكّ على أسنانه إذا لم يحصل على ما يريد!؟
قد يتكرر ذلك المشهد دون أن يدرك الأب أو الأم الطريقة الصحيحة للتعامل معه، باختصار لقد تملَّكَت طفلك «نوبة غضب»، ولكن لا داعي للخوف من تلك النوبات التي قد تعدينها لحظات شديدة الإحباط، وأحياناً شديدة الحرج.
لماذا تحدث نوبات الغضب؟
قد تبدين أيتها الوالدة مرهقة، ما في ذلك شك، وأنت تشاهدين طفلك يترنح بين مشاعر عدة؛ ففي لحظة يكون مبتهجاً ممتلئاً بالنشوة، وفي أخرى يكون مشحوناً ومملوءاً بالألم، لا سيما في أثناء نوبة غضبه. ولكنّ ما لا تعلمينه أن نوبة الغضب هذه تشكل صمام أمان لطفلك، يمرر من خلالها توتره بطرق يعدها مألوفة بالنسبة له، هذا التوتر الذي يشتمل على جميع أنواع المشاعر التي تنطلق في صورة: صرخات.. صيحات.. ضرب.. تشبث، وغيرها من ردود أفعال.
كتبت د.(دارلافيرس ميلر» في كتابها «مرشد الطفل الإيجابي):
إنّ قدرة الطفل على الفرح أو الحزن أو الغضب.. تتكون لديه قبل أن يتم ستة أشهر، وعند وصوله إلى تسعة أشهر يحدث تطور وزيادة مفاجئة في انطلاق هذه المشاعر، وحينما يكبر الأطفال يتعلمون تدريجياً التعبير عن هذه المشاعر بطريقة مقبولة اجتماعياً، ولكنهم لا يطوّرون قدرتهم على التحكم بالقدر نفسه الذي تتطور به المشاعر والأحاسيس لديهم، ومن هنا؛ فإن الأطفال عادة ما يندفعون في نوبات غضب على غير عادة الكبار الذين يتعلمون التفكير أولاً.
لن تحتاج إلى خبير سيكولوجي:
نعم، يمكنك التعامل مع نوبات غضب طفلك دون الحاجة إلى دراسة سيكولوجية الطفل، ويأتي «التواصل الفعَّال» على قمة العوامل الناجحة في هذا الشأن، وهذا يستدعي أمرين: الاستماع المؤثر، والاستجابات المؤثرة؛ (تلك الاستجابات التي قد تكون شفهية أو غير شفهية).
فحتى تعرفي ما يريده طفلك عليك الاستماع له، ومن الجوانب المؤثرة في مهارات الاستماع: الوضع أو الجلسة الصحيحة مثل: الانحناء إلى مستواه، والانتباه المركز له كالتواصل بالعينين والصمت حينما يحاول شرح احتياجاته، والاستجابة المناسبة التي تتضمن الخطاب الهادئ، والابتعاد عن كلمات الوعيد والتهديد، واستخدام اللغة غير المنطوقة (غير الشفهية) مثل: الإيماء، والابتسام، واللمس؛ فإن توظيف عاملَي الاستماع المؤثر والاستجابات المؤثرة معاً يتناسب – وبشكل رائع – في التعامل مع نوبات الغضب.
سيناريو نموذجي بين أم وطفلتها:
رافقت هبة – 4 سنوات – والدتها في رحلتها إلى السوق، وسألت هبة أمها أن تشتري لها حلوى، رفضت الأم.. كررت هبة طلبها باستجداء وأكدت أنها جائعة. انحنت الأم وقالت لابنتها بعطف: (أتفهَّم أنك تريدين الحلوى، ولكنها ضارة بأسنانك، أحب ابنتي وأتمنى لها أسناناً قوية.. صحية.. لامعة؛ ولذلك عليَّ أن أرفض).. بالمقابل أخذت هبة «نوبة غضب»، ولكن أمها لم تتراجع، بل قالت في صوت هادئ: «أعلم أنك غاضبة، أحياناً أشعر أنني شديدة الاضطراب مثلك، ولكني الآن أحتاج لحضن من ابنتي».. تنظر هبة إلى الأم وتقترب منها لتأخذها في حضنها الدافئ.. تقترح الأم تفاحة بدلاً من الحلوى.
بالطبع تبدو لنا مهمة الأم ناجحة بشكل لا يصدّق، ولكن بتحليل الحوار بين هبة ووالدتها بشكل دقيق يمكننا إدراك تكوين هذا الخطاب:
1- أقدر مشاعرك (الاعتراف بتقدير مشاعر الطفل بطريقة متعاطفة)
2- ولكن حينما يحدث ذلك (حدّد الموضوع بطريقة بعيدة عن التهديد، ركز في نقدك على الفعل لا الشخص)
3- أشعر (حدد مشاعرك)
4- لأن (أعراض السبب)
5- أحبك.. (أعد التأكيد على حبك له وإن عدم موافقتك لا يعني عدم الاهتمام به)
6- اجعلنا نفعل كذا بدلاً من ذلك (قدم بديلاً يفي برغبته ويصرف نظره عن الرغبة الأولى)
وبالرجوع للمشهد في جوهره، فما حاولته والدة هبة هو جدال متفاهم، يمتلئ حباً وهدوءاً دون التراجع من أجل مرور الوقت بسلام وعدم الإحراج.
وأخيراً تصف د.«فيس ميلر» هذه النوبات بأنها قد تتشابه مع الأسئلة التي يطرحها الطفل رغبة في المعلومة أو التأثير، فقد يسأل الطفل «أين أمي؟»؛ لأنه يريد المعلومة وهو السؤال نفسه الذي قد يترجم رغبته في الانتباه إليه، فقد يكون السؤال مناشدة أو التماساً مثل: «اسمعي، وأظهري اهتمامك بي!».
فلنحاول أن نفهم الرسائل التي يبعث بها الصغار إلينا حتى لو كانت رسائل غاضبة بعض الشيء.
د. مصطفى أبو سعد
المصدر : مجلة الإبداع .