الأحد 22 ديسمبر 2024 / 21-جمادى الآخرة-1446

التربية بالرحلة والسفر .



التربية بالرحلة والسفر .

أ.عبد الرحمن هاشم.
 

كان “يزيد بن المهلب” مسافراً ومعه ابنه “معاوية”، وفي الطريق.. استضافتهما امرأة بدوية.. وكان من تكريمها لهما أن ذبحت لهما عنزاً.
فلما طعما، قال يزيد لابنه: ما معك من النفقة؟ قال: مائة دينار.
فقال له أبوه: اعطها إياها.
فقال له ابنه: هذه امراة فقيرة.. يرضيها القليل، ثم هي لا تعرفك.
فقال يزيد: اعطها إياها.. فقال له ابنه: هذه امرأة فقيرة.. يرضيها القليل.. مكرراً ما قاله آنفا.

فما كان جواب “يزيد” إلا أن قال لولده: إن كان يرضيها القليل.. فأنا لا يرضيني إلا الكثير.. وإن كانت لا تعرفني.. فأنا أعرف نفسي!


الأديب الدكتور محمود عمارة أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية في تحليله لهذا المشهد التربوي يقف عدة وقفات:

1ـ الوالد هنا ـ وهو رمز من رموز العرب ـ كان وفياً بحق ابنه الذي اختار اسمه فأحسن الاختيار فسماه “معاوية“.
وذلك حق الإبن على أبيه.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من حق الولد على الوالد: أن يحسن أدبه.. ويحسن اسمه“.

وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: بر والديك.
فقال الرجل: ليس لي والدان.. فقال صلى الله عليه وسلم: بر ولدك كما أن لوالديك عليك حقاً .. كذلك لولدك عليك حق“.

وقد أدى “يزيد بن المهلب” هذا الحق حين سماه باسم حسن، ولاحظ من فقه السنة أنه عليه الصلاة والسلام وإن كان الإسم الحسن داخلاً في حسن تأديبه، إلا أن إفراده بالذكر تنويه به، ولفت للأنظار إليه، حتى لا يترخص بعض الناس في اختيار الإسم، وما يترتب على ذلك من سلبيات تفرض عليه فرضاً.. وما كان أغناه عنها ابتداءا.

2ـ استصحاب الوالد ولده معه في سفره إيثاراً للون من التربية بالأحداث والمواقف.. فإذا كان الطفل في البيت مدللاً مجاب الرغبات وبخاصة من جانب “أمه” التي تفيض رقة وحناناً.. فإنه وفي السفر يلاقي من خشونة التنقل وتغيير العادات ومفاجآت الطريق ما يصقل شخصيته عن طريق ما يلاقيه من وعثاء السفر وتقلباته، بعيداً عن رخاوة البيت، ووفرة النعيم الذي به يترهل الجسم، ثم يستعبده النعيم فلا يصلح لاتخاذ القرار في مواجهة المواقف الصعبة والأوقات الحرجة.

إنه في البيت لا يجوع.. ولا يعرى.. ثم هو لا يظمأ فيه ولا يضحى.. أما في السفر فهو معرض لما لم يكن له في حساب.. وعليه أن يلقاه بالصبر الجميل الذي هو ثمرة من ثمار السفر.. الذي نوه به الشاعر القائل:

سافر: تجد عوضاً عمن تفارقه *** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده *** إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب 

وها هو ذا “معاوية” يأكل من الشاة المذبوحة عبر الصحراء المفتوحة فإذا لها طعم فريد.. لم يشعر به من قبل في بيته الحافل بما لذ وطاب.. ولم يذق فيه الجوع يوماً.

3ـ ثم إن الوالد هنا يستودع ولده نفقات الرحلة تدريباً له على الإنفاق وتدبير شؤون أهله من بعد.

إن كثيراً من الآباء يفضلون أن يباشروا كل شؤون البيت بأنفسهم مهملين فلذات أكبادهم الذين يشبون عن الطوق بلا تجربة تعينهم على أن يعيشوا حياتهم بنجاح.


ومن ثم يفشل الولد عندما يستقل غداً بأسرة بسبب أن الوالد كان ينوب عنه في تدبير أمر هو عاجز اليوم عن أن يقول فيه رأيه!

ثم هو يستغني به عن “السكرتيرة” الجميلة.. وما قد يترتب عليه من مشكلات تفيض بها أنهار الصحف للأسف الشديد.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم