إنّ المواقف التربوية للمربي الأول صلى الله عليه وسلم ليست قاصرة على تلك الحِلَق التي يعقدها لأصحابه في مسجده، أو تلك الخطب التي يلقيها على منبره، أو مواقف التعليم التي يعلمهم فيها ما يجهلون أو يذكرهم بما غفلوا عنه. إنها مواقف متنوعة؛ في الحضر والإقامة، في السراء والضراء، في السلم والحرب، في المنشط والمكره؛ إذ التربية قضية حية يعايشها مع أصحابه صلى الله عليه وسلم في مواقفه المتعددة. خرج صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى الحج، وكان كعادته له صحبة خاصة مع أبي بكر رضي الله عنه، فكان هذا الموقف الذي تحكيه لنا أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. قالت: “خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجاً، حتى إذا كنا بالعَرْج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلست إلى جنب أبي، وكانت زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظره أن يطلع عليه، فطلع وليس معه بعيره، فقال: أين بعيرك؟! قال قد أضللته البارحة. فقال أبو بكر: بعير واحد تضلّه! فطفق يضربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسّم ويقول: انظروا إلى هذا المحرم وما يصنع!”. ومعنى الـ (زِمالة) كما يقول العظيم آبادي: “بكسر الزاي، أي مركوبهما، وما كان معهما من أداوت السفر”. في هذه القصة وقفات تربوية عدة: فها هو أبو بكر رضي الله عنه خير الأمة بعد نبيها، بل خير الناس بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، ها هو رضي الله عنه وهو متلبّس بالإحرام يغضب فيضرب غلامه؛ إنّها النفس البشرية تسمو وتعلو وتبلغ القمة، وتبقى مع ذلك بشراً، لابد أن يصيبها ما يصيب سائر البشر. إنّ كثيراً من المربين يغلب عليهم الحرص والحدب على أولادهم وتلامذتهم، ويتطلعون إلى أن يكونوا وفق صورة سامقة يرسمونها، فيعيشون حالة من التصوّر الذهني المجرّد لما ينبغي أن يكون عليه هؤلاء الأبناء، وقد تستولي عليهم هذه الصورة الذهنية فتحملهم على تجاهل الواقع، بل وتنسيهم أنهم يتعاملون مع بشر!. فالبشر مهما تلقوا من التربية، ومهما بلغوا من السمو والصفاء فلن يتجاوزوا كونهم بشراً، يخطئون ويصيبون، يكبون وينهضون، يحسنون ويسيئون، إلاّ من عصمه الله بتوفيقه. إننا في حالات كثيرة تسيطر علينا الرؤية المثالية في تربيتنا فتعوقنا عن رؤية الواقع والوعي به على طبيعته. والمثالية في التربية تبدو في مجالات عدة:
المجال الأول: التخطيط؛ والتخطيط مفهوم أوسع من الخطة المدونة المكتوبة على أوراق وفق برنامج محدد مرسوم؛ فقد تكون الخطة صورة في الذهن، وهي وإن نقصها التحديد والتأطير تبقى خطة موجهة لعمل المربي.
المجال الثاني: الأهداف؛ فيرسم المربي للناس أهدافاً محلّقة في الخيال تنوء بها قدرات البشر وإمكاناتهم وطاقاتهم؛ إمّا أنها مما لا يطيقه البشر ابتداءاً أو استمراراً عليه، أو أنها لا تلائم قدرات من رُسِمَت ووُضِعَت له.
المجال الثالث: في العمليات والتطبيقات التربوية؛ فكما أنّ المتربي بشر فيه من القصور والضعف البشري، فالمربي هو الآخر وإن انتقل إلى مرحلة البناء والعطاء لا يتجاوز البشرية، ومن هنا فحين يمارس التربية سنفترض فيه القصور والخلل البشري.
المجال الرابع: في التقويم وإصدار الأحكام؛ فأحكامنا على أولادنا أو غيرهم من الناس تمرّ من خلال أننا نرسم صورة نرى أنهم يجب أن يكونوا عليها ثم نقارن بين واقعهم وبين هذه الصورة التي وصلوا لها. إننا قد نرسم صورة للزوجة المثالية في نومها استيقاظها ورعايتها لحق زوجها وأولادها، وإدارتها لبيتها، ثم نقيس واقعها بهذه الصورة التي رسمناها. ونرسم صورة لأولادنا في تعاملهم معنا، ومع الآخرين، في عبادتهم وأخلاقهم، في امتلاكهم لمهارات الحياة وجديتهم فيها، ثم نقيس واقعهم بناء على هذه الصورة التي نرسمها. ومن هنا تبدو المثالية في توسيع دائرة ما نصنفه على أنه خطأ من الأعمال والمواقف، وتبدو في الصرامة بالمطالبة بهذه الصورة المرسومة، وتبدو في الحديث معهم عما ينبغي أن يكونوا عليه.
إننا بحاجة لأن نكون واقعيين في تربيتنا، واقعيين حين نخطط للتربية، وواقعيين حين نرسم الأهداف، وواقعين حين نقَوِّم المتربين. والواقعية التي ندعو إليها ليست تلك التي تستسلم للواقع السلبي وترضى به، وتدافع عن كل تقصير وخلل بحجة بشرية الناس وقصورهم وضعفهم، أو تدنو الهمة فيها وينخفض الطموح. إنّ مهمة التربية أن ترتقي بالإنسان وتنهض به، وأن تصلح من أوضاعه السيئة، وتنقله من واقعه الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي يطيقه البشر.
وحتى نحقق الواقعية المعتدلة في تربيتنا نحتاج أن نعي ونفهم طبيعة الإنسان وخصائصه، وكتاب الله عز وجل مليء بالحديث عن هذه الطبيعة البشرية وبيانها، قال عزّ وجل: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً، وقال سبحانه: (إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، وقال أيضاً: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)، وقال تبارك وتعالى: (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً)، وقال تعالى: (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)، وقال جل وعلا: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ)، والآيات التي تبرز لنا طبيعة الإنسان يضيق وقتنا عن استيعابها. وحتى نحقق الواقعية في تربيتنا فنحن نحتاج أيضاً: أن نعرف طبيعة الشخص الذي نتعامل معه، فكما أن القصور والخلل ملازم للبشر من حيث كونهم بشراً، فالقصور قد يرد للشخص ذاته من خلال قدراته أو بعض خصائص وسماته الشخصية. وهذا الأمر كان يرعاه النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أصحابه رضوان الله عليهم فعن أبي ذر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: “يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحبُّ لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرنّ على اثنين، ولا تولينّ مال يتيم”. ولم يكن في هذا الأمر منقصة لمنزلة أبي ذر رضي الله عنه، بل هو صادر عن حرص ومحبة من المربي الأول صلى الله عليه وسلم مراعاةً لطبيعة أبي ذر وخصائصه الشخصية. ومما نحتاجه أيضاً حتى نحقق الواقعية في تربيتنا: أن نأخذ في اعتبارنا السن والمرحلة العمرية التي ينتمي إليها الشخص؛ فالطفل له خصائص وسمات ومستوى من الإدراك يختلف عن المراهق، والمراهق يختلف عن الناضج، والشيخ كبير السن يختلف عن من لم يبلغ مرحلة الشيخوخة.
وكذلك نحتاج أيضاً: أن نراعي الظروف والحالات التي تمرّ بالشخص وتكتنفه؛ فقد يعيش المتربّي حالة نفسية معينة، وقد يكون تحت تأثير موقف من المواقف السارّة أو الضارّة، أو يسيطر عليه دافعٌ أو هدف يسعى لتحقيقه مما يجعل أعماله وتصرفاته متأثرة بهذا الموقف، ولا تحكي بالضرورة الحالة الطبيعية والواقعية.
د. محمد بن عبدالله الدويش
المصدر : موقع المربيّ