إن اختلاف النضوج العقلي بين الفتاة العاملة وربة الأسرة العاملة يجعل الحوار مع هذه الأخيرة أكثر عقلانية وتقبلاً للأفكار دون عصبية وتهور ، كما أن لاختلاف أهداف العمل بالنسبة للنوعين أثره في إنجاح هذا الحوار ،
إذ أنه فيما تتعلق الفتاة – في بعض الأحيان – بالعمل لقتل الفراغ أو لتحقيق بعض الحرية في التحرك والخروج من المنزل ، أو رغبة في إثبات الذات عن طريق الاستقلالية المادية ، تتعلق الزوجة وربة الأسرة بوظيفتها تعلقاً معيشياً في كثير من الأحيان ، مع رغبة شديدة عند بعضهن في التخلي عن العمل والتفرغ لتربية الأولاد خاصة في سن الطفولة .
ومن أسباب الحديث عن معاناة الزوجة وربة الأسرة العاملة هو وجود الضائقة المادية التي طالت كثيراً من الناس ، وتركت أثراً على نفسية المرأة العاملة التي زاد حملها وكُلفت بمهام لم تعهدها من قبل .
ومن الصور التي تحكي عن هذا الواقع ولا يخلو منها أي مجتمع سواء كان قروياً أو مدنياً، الصور التالية :
-2- صورة المرأة التي تعمل منذ ساعات الفجر الأولى وحتى ساعة متأخرة من الليل كي تساهم في تأمين الدخل الكافي للأسرة ، ولا تنتهي معاناتها عند هذا الحد بل تعود إلى المنزل بعد يوم شاق لتجد زوجها وأولادها في انتظارها ، هذا الانتظار الذي لا يخلو من تذمر ورفض ، وإشعار بالتقصير في الواجبات المنزلية ، فالبيت لا يوجد فيه طعام ، والبيت يحتاج إلى ترتيب والأولاد لم يبدؤوا بدراستهم بعد ، الكل في انتظارها لكي تقوم بما لا يستطيع أحد غيرها القيام به !!!
-3- صورة الزوج الذي يقوم بشؤون البيت والأولاد، بينما تذهب زوجته إلى العمل صباحاً وتعود مساءً لتجد اللقمة الطيبة والثياب النظيفة ، وأسباب هذا الوضع تتعدد منها : تفوق راتب الزوجة عن راتب الزوج ، طرد الزوج من العمل نتيجة الضائقة الاقتصادية وعدم إيجاده لوظيفة أخرى ، مما يضطره إلى الاعتماد على وظيفة زوجته فترة طويلة ، ومما يحكى في هذا المجال قصة تلك العروس التي ما أن انتهى شهر عسلها حتى طرد زوجها من عمله واضطرت إلى تولي مسؤولية الإنفاق على أسرتها .
إن السؤال الذي يتردد في الأذهان بعد عرض لهذه الصور ، ما هي الآثار الجسدية والفكرية المترتبة على ازدواجية عمل المرأة ؟ وهل عمل المرأة تحت هذه الظروف نعمة أم نقمة ؟
في البدء لا بد من الإشارة إلى أن مناقشة شرعية عمل المرأة ليس هنا مجال بحثه خاصة أن عمل المرأة في بعض الحالات يعتبر حاجة وضرورة لبقاء الأسر وتأمين معيشتها خاصة في حال فقد المعيل ، ولكن الحديث يتناول ذكر بعض الأضرار التي لحقت بالمرأة وأسرتها من جراء خروجها إلى العمل ، هذا الضرر الذي يخشى أن يترك أثراً على الأجيال المقبلة والذي يمكن أن يلاحظ عند الاطلاع على أحوال المرأة العاملة الغربية التي مرت بالطريق نفسه التي تمر به المرأة العربية اليوم ، حتى إن كثيرات من النساء الغربيات بدأن يطالبن بعودة المرأة إلى البيت .
ومن ابرز الأضرار التي يمكن استنتاجها ما يلي :
-1- عدم تنازل الرجل عن أي حق منحه إياه الشرع أو العادة أو التقليد ، لذلك فهو يرفض أن يقوم بأي عمل قد لا يتناسب معه ، لهذا تجد المرأة نفسها “تعيش عبء خيارها العمل المزدوج لوحدها ولا تحصل على دعم الرجل أو على دعم المجتمع ” .
وهذا الرفض للتعاون قد يكون إرادياً يفعله الرجل عن رغبة وتصميم ، كما قد يكون لا إرادياً وذلك عندما يطال المهمات التي هي أصلاً من اختصاص الزوجة كما حددتها طبيعتها الجسدية كالحمل والإرضاع والاهتمام بالأطفال .
أما عدم التعاون الإرادي فحجة الرجل فيه هو قول الله سبحانه وتعالى : ” الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على البعض ” ، النساء ، 34.
مع أن هذا التفضيل الذي جاءت به الآية إنما هو ناتج عن قيام الرجال بالذب عن النساء “كما تقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعية ، وهم يقومون أيضاً بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن …
وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها ، وبه قال مالك والشافعي وغيرهما ” ، الشوكاني، فتح القدير ، ، ج1 ، ص517.
إلا أن بعض الأزواج يجهلون مفهوم القوامة ويربطونها فقط بالرجولية ، فلا ينظر هذا الزوج إلى تقصيره في القيام بواجباته الزوجية ، إنما ينظر فقط إلى حقوقه والتي من أبرزها السمع والطاعة .
ومما يبعث على الخوف من تفاقم هذه الحالة هو وجود النموذج الحي التي تقتفي المرأة العربية أثره، وهو نموذج الزوجة الغربية التي تشير أخبارها إلى مدى القهر والاستبداد الذي يمارسه الزوج عليها حيث يجبرها على العمل خارج المنزل وداخله دون الاهتمام لنوعية العمل الذي تقوم به ، ” فإن ضاقت بذلك ذرعاً وأعلنت احتجاجها على هذا الظلم ، أحيلت إلى قطيع النساء المطلقات ، بعد أن تنال نصيبها الأوفى في الإيذاء والضرب ” .
وقد أدى الأمر ببعض الدارسات اللواتي يدعين المحافظة على حقوق المرأة أن يتخوفن من هذه النقطة ، إذ أدركن أن القوانين التي يمكن أن تسن لصالح المرأة لا فائدة منها إذا لم تقترن بتصحيح للذهنية السائدة ، لذلك قالت إحداهن : إن خروج المرأة إلى العمل في ظل هذه الظروف يؤدي ” إلى أن يتضاعف الاستغلال الواقع عليها وبدلاً من أن تكون ” أداة ” للعمل داخل البيت فحسب ، تصبح بالإضافة إلى ذلك أداة للعمل خارج البيت ولحساب زوجها ” ، فريدة بناني، حق تصرف الزوجة في مالها ، ص83.
-2- خسارة المرأة لراحتها واستقرارها داخل البيت مع زوجها وأولادها حيث يسود جو مشحون بالتوتر واللوم نتيجة تقصيرها في واجباتها العائلية ، هذا التقصير الذي لا يخفف منه الاستعانة بالخادمات والمربيات اللواتي يزدن من إحساسها بتأنيب الضمير كونها تترك لهن مهمة تربية الأولاد والاهتمام بهن .
وقد عبرت إحدى النساء عن مشاعر الإحساس بالذنب قوية تجاه أطفالها ناجم عن ضيق في دورها الأسري والذي يخشى من نتائجه التربوية السلبية التي يمكن أن يتعرض لها الأبناء بناءً على تأثيرات الإعلام والتربية العلمانية المغربنة التي لا تملك أن تضبطها .
ولهذا تخشى هذه الأم أن تخسر أبناءها وتذهب تضحيتها أدراج الرياح ، فلا تجد في شيخوختها ابناً باراً أو ابنة مُحبة ، لأن من الأسباب الموجبة لبر الأم والإحسان إليها الحمل والفصال والتربية والإشراف ، فقد قال تعالى : ” ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهـراً” ، الأحقاف 15.
فهل تقوم الأم العاملة اليوم بواجب الرضاعة لأكثر من أربعين يوماً ؟ وهل تقوم هذه الأم بواجب العناية بأبنائها ومراقبة نموهم والسهر على راحتهم ؟ أم أن هذا الأمر أصبح من اختصاص الخادمة أو دور الحضانة ؟ فهل إذا كَبِرَ هذا الطفل (طفل الهمبرغر) تستطيع أمه أن تطالبه بحقها في الرعاية والاهتمام ؟ تنفيذاً لقوله تعالى : ” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً ” ، الإسراء، 23.أم أنه سيترك أمه لدُور العجزة كما تركته هي فيما مضى لدور الحضانة ! السؤال يحتاج إلى جواب…
إن ما ورد هو ذكر لبعض الأضرار التي تطال الزوجة والأم العاملة ، أما الحديث عن آثار هذا العمل على المجتمع فهي متعددة ولعلّ أهمَّها استيلاء كثير من النساء على وظائف كان من الممكن أن يستفيد منها رجال مسؤولون عن عائلات ، أو شباب يحتاجون إلى بناء أسر وتكوين عائلات.
إن قضية عمل المرأة تحتاج إلى وعي للمشكلة القائمة ، إذ أن هذه القضية تواجه تبايناً كبيراً في الرأي حتى في صفوف النساء أنفسهن ، ففيما تتمسك كثيرات من النساء بعملهن ويعتبرنه منفساً يهربن منه من مصاعب الحياة ، حيث تقول إحداهن : ” مهما تكدّست مشاكلي فسوف اخرج في اليوم التالي ، أذهب لأرى الناس ، حيث أحسّ بقيمتي وبموقعي العام ” ، تقوم كثيرات منهن بالدعاء على أول امرأة تركت منزلها وفتحت الباب لخروج المرأة إلى العمل .
بناء على ما تقدم عبَّر أحد المرشدين الاجتماعيين عن حيرته في هذا المجال إذ لمس أنه على رغم كَون عمل المرأة وقعودها في البيت يعتبر آلة لتفريغ المشاكل النفسية ، إلا أنه لم يجد أن عملها المهني الذي يزيد من أعباءها قد يوفر لها حلاً لهذه المعضلة .
فلهذا من الضروري للمرأة والمجتمع أن يُعمل على إيجاد الحلول المفيدة لمشكلة عمل المرأة ، ومن هذه الحلول ما يمكن أن ينفذه الزوجان المعنيان بالأمر، عبر تفاهمهما حول هذا الموضوع ،إذ أنه إذا كان عمل المرأة ضروري لتأمين الدخل الكافي للأسرة ، فعلى الزوجين أن يتعاونا لسدّ الفراغ الذي يتسبب به غياب الزوجة الطويل عن المنزل ، فإن في قيام الزوج ببعض الأعمال المنزلية ، وفي مساعدته في تدريس الأولاد إشاعة لروح التعاون في البيت ، واستبدال لأجواء المشاحنة والبغضاء بأجواء السكن والمودة التي لا بد منهما للمحافظة على الاستقرار الأسري .
ومن هذه الحلول ما يؤمل تنفيذه من أجل تحسين وضع المرأة العاملة بشكل علم كتوظيف من تحتاج منهن إلى العمل بوظيفة يمكنها القيام بها في منزلها أو تأمين راتب شهري لربة البيت التي فقدت معيلها يدفع عنها ذُلّ العوز والسؤال ، خاصة أن الراتب الذي يمكن أن تتقاضاه في الخارج في أغلب الأحيان يكون زهيداً مقارنة بالجهد الذي تبذله ، أو إيجاد فرص عمل خاصة بالنساء كإيجاد الأسواق والمستشفيات النسائية التي يمكن أن تسد حاجة اقتصادية كما أنها تساهم في التقليل من المخالفات الشرعية ، ويمكن أن تتخلى كثيرات من الفتيات عن أعمالهن لعدم وجود فرص الاختلاط المتوافرة حالياً .
وفي الختام السؤال الأكبر : هل ما نتمناه يتمناه سوانا ؟ وهل ما ندعو إليه مستحيل في ظل مجتمع تكثر فيه التناقضات حتى في البيت الواحد ؟
السؤال ينتظر الجواب …