لا أدخل بلدًا من بلدان العرب فأحس بوحشة الجماد فيها، واكتئاب المباني، وبكاء الشوارع كما كنت أحسه في سوريا قبل الثورة.. لم أجد غير هذه المشاعر تحاصرني، وتطاردني حتى أخرج.
غوطات دمشق، وروضات الزبداني، والمجد الحلبي، كلها في ظل احتضار الحرية الإنسانية مجرد تماثيل من الشمع لا نبض فيها.
الأخاديد على وجوه الشباب كالتجاعيد على وجوه الشيوخ، لا فرق، فقد شاخ أولئك على الحزن، وولد هؤلاء في مراقده المفزعة.
نواعير حماة لم تزل تنوح منذ أكثر من ثلاثة عقود على ثلاثين ألف شهيد، وثلاثين ألف معتقل، نسيهم الطواغيت في السجون؛ فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر،
وأما ذووهم فقد حرموا حتى من مجرد معرفة إجابة سؤال إنساني واحد: هل قريبي حي فأرجوه، وتنتظره أمه وأبوه، وصاحبته وبنوه، أم سالت روحه من بين أصابع الزبانية؟! فيعزى أهله، وتتزوج امرأته، ويرثه أولاده؟؟
إنسان.. ويجهل مصيره في بلاده! حكم عسكري جبري سلطوي طاغوتي ظالم؛ لم يدم إلا حين قطّع الأرحام، حتى شك الأخ في أخيه، ففقد طعم الحياة، ولا حياة لخائف.
الدول تبني حضارتها، وترتقي بشعوبها، وسوريا تقمع روح التطلع في طلائعها الفتية، وتطارد أطباءها ومهندسيها وقراءها ودعاتها وعلماءها الأجلاء في شتى الفنون، حتى تبعثروا في كل أرض وتحت كل نجم!!
هذا المنطق لا يفقهه الطغاة إلا في اللحظات الحرجة التي عرفها فرعون والقذافي..
فمتى يا سوريا تسمعين من بشار وزمرته: وداعًا يا سوريا.. وداعًا لا لقاء بعده؟!
أم أنه لن يدرك أن يقولها إلا إذا أدركه الغرق كجدِّه؟!!