محمد بن إبراهيم الحمد .
إصلاح ذات البين شعبة إيمانية, وشرعة إسلامية, تُستل بها السخائم, وتصفو القلوب, وتخمد نيران الفتن.
قال الله -عز وجل- منوهاً بتلك الخصلة: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) النساء: 114.
ولكن هذه الخصلة الكريمة، والقربة العظيمة تحتاج إلى ممارسة ودَرَبة، وألمعية مهذبة، كما تحتاج إلى نية صالحة، وقدرة على حسن الأخذ بالأسباب، ومعرفة لدخول البيوت من الأبواب؛ فهذه -على سبيل الإجمال- أسس لابد للمُصْلِح من مراعاتها، والأخذ بها حال خوضه لغمار إصلاح ذات البين.
أما تفصيل ذلك فيحتاج إلى بسط وتفصيل، والمقام لا يسمح إلا بأقل القليل.
وفيما يلي معالم بازرة في هذه الشأن هي أشبه بالإيضاح للأسس الماضية المجملة.
1- احتساب الأجر: –
كما قال -عز وجل- (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) النساء: 114.
فما ظنك بعمل صالح رتب الله عليه هذا الثواب الجزيل؟
إنه عمل عظيم وله -في نظر الشارع- مقام جليل؛ فاحتساب ذلك على الله -عز وجل- يبعث الهمم، ويقود إلى المسارعة والمسابقة في ذلك السبيل، ويمد القائم به بالصبر، والروح، والطمأنينة.
2- استشعار أن ذلك العمل استجابة لأمر الله، قال الله -عز وجل-: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) الأنفال: 1.
3- استحضار أنه سبب لقوة الأمة:
لأن الأمة المتصارعة، المتفككة يوشك أن تنهار، وأن تلتهمها أمم أخرى؛
فإصلاح ذات البين سبب لقوة الأمة، وصلابتها، وهيبة أعدائها لها.
4- شكر الله -عز وجل :
فحقيق على المُصلِح بين الناس, المُيَسَّر لهذا العمل الجليل – أن يشكر الله – على هذه النعمة؛ وأن يعترف له بتلك المنة؛ فانشراح صدره لذلك العمل, وقبول الناس لإصلاحه, وإصغاؤهم لكلامه, وأخذهم برأيه – إنما هو محض فضل الله -عز وجل-.
قال الإمام الشافعي-رحمه الله :
الناس بالناس ما دام الحياة بهم ** والسعد لا شك تارات وهبات
وأفضل الناس ما بين الورى رجل ** تقضى على يده للناس حاجات
لا تمنعن يد المعروف من أحد ** ما دمت مقتدراً فالسعد تارات
واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت ** إليك لا لك عند الناس حاجات
5- التحلي بالحلم وسعة البال:
لأن المصلح -في الأغلب- سيدخل بين أطراف يقل عندها العدل والعقل، ويفشو فيها الظلم والجهل؛ فيحتاج -إذاً- إلى ضبط النفس، وسعة الصدر، واحتمال ما يصدر من سفه، وتطاول، وترديد كلام، وإطالة في المقدمات.
فلا يحسن به أن يكون ضيق الصدر، قليل الصبر.
وليعلم أن مهمته مرهقة؛ فليوطن نفسه على عقبات الطريق، وليداوِ كلوم النفوس بالهدوء، وسعة الصدر، ولين الجانب، ومقابلة الإساءة بالإحسان؛ فإن تلك الصفات رقيةُ النفوس الشرسة، وبلسم الجراح الغائرة.
6- التصور التام للقضية:
فلا بد للمصلح إذا أراد الدخول في قضية ما – أن يكون على تصور تام لها؛ فالحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ إذ كيف يدخل في مجاهل، ومفاوز لا يدرك غورها، ولا يسبر مسالكها؟
فلا بد -إذاً- من تصور القضية، ومعرفة أطرافها، وأحوال أصحابها، وما يكتنفها من غموض، وظروف.
7- النظر في إمكان الدخول في القضية:
فإذا تصور المصلح القضية تماماً نظر في إمكان الدخول فيها، وجدوى السعي في حلها.
وربما احتاج إلى الاستشارة، والاستخارة؛ فربما تكون القضية فوق طاقته، وربما يكون دخوله فيها كعدمه، بل ربما لحقه ضرر دون أدنى فائدة.
ومن هنا كان التحري، والتروي، وحسن النظر – متحتم قبل الدخول في القضية.
8- الدعاء وسؤال الله التوفيق:
فمهما بلغ الإنسان من الكياسة والفطنة، والسياسة، وحسن التصرف – فإنه لا يستغني عن توفيق الله ولطفه، وإعانته؛ فليلجأ المصلح إلى ربه وليسأله التوفيق، والتسديد, واللطف، فإنه -عز وجل- يجيب من دعاه، ويعين من استعان به (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) غافر: 60.
9- المحافظة على أسرار المتخاصمين:
فذلك من الأخلاق التي يجب على المصلح أن يأخذ بها، وألا يسمح لنفسه بالتفريط في شأنها.
أما إذا احتاج إلى إفشاء شيء من ذلك لمن يعينه الأمر، أو لمن يمكن الإفادة من رأيه – فذلك داخل في الإصلاح.
10- الحذر من اليأس:
فربما حاولت المحاولة الأولى، وبذلت وسعك في معالجة المشكلة – فأخفقت؛ فإن كنت قصير النَّفَس، ضيق العطن أيست من العلاج، وتركت المحاولة إلى غير رجعة.
أما إذا أخذت بسياسة النفس الطويل، وتدرجت في مراحل العلاج مرحلة مرحلة – أوشكت أن تصل إلى مبتغاك؛ فاحذر -إذاً- من اليأس، وإن أعيتك حيلة فالجأ إلى أخرى، وإذا انسد عليك طريق – فاسلك غيرها.
11- الاستعانة بمن يفيد:
سواء من أقارب الأطراف، أو من أصدقائهم، أو معارفهم، أو من له تأثير عليهم.
ولكن يراعى في ذلك أن يكون أولئك من ذوي الروية، والبصيرة، والحكمة.
12- مراعاة الذوق العام:
ويندرج تحت ذلك أمور كثيرة، وربما كان بعضها صغيراً، لكنه قد يغير مسار القضية تماماً، فيدخل تحتَ الذوقِ تجنبُ بعضِ الكلمات الجافية المثيرة، واستعمالُ العبارات اللائقة الجميلة التي تبهج النفس، وتشرح الصدر.
ويدخل في ذلك اللمسةُ الحانيةُ، والبسمةُ الصادقة، ويدخل فيه استثارة النخوة، وتحريك العاطفة، بل قد يدخل فيه العتب والغضب إذا كان ذلك في محله، وممن يليق منه ذلك.
ويدخل في ذلك مراعاة العادات، وفهم الطبائع والنفسيات.
فهذه الأمور، وما جرى مجراها من جملة ما يحتاجه المصلح مع مراعاة وضع كل أمر في نصابه دون وكس ولا شطط، ولا تكلف.
13- حسن الاستماع:
لأن كلَّ طرف من الأطراف يزعم أنه على حق، وأن صاحبه على باطل؛ فيحتاج كلُّ واحد منهما إلى مَنْ يَستمع إليه، ويرفق به، ويأخذ ويعطي معه.
بل إن بعض الخصوم يكفيه أن يفرغ ما في نفسه من غيظ، أو كلام؛ فيشعر بعد ذلك بالراحة، ويكون مستعداً لما يراد منه.
14- الانفراد بكل طرف على حدة:
فاللقاء الفردي بكل واحد من الأطراف ربما يحسن في بعض الأحيان؛ حتى لا يحصل الصراع والعراك في بداية الأمر؛ فيتعذر الإصلاح.
فإذا حصل اللقاء الفردي كان ذلك سبباً لأن يقف المُصْلِحُ على حقيقة الأمر، وما يريده كل طرف من الآخر.
15- الرفع من قيمة المتخاصمين:
وذلك بإنزالهم منازلهم، ومناداتهم بأحب أسمائهم إليهم، والحذر من انتقاصهم، أو الحط من أقدارهم.
16- الحذر من الوقيعة بأحد الخصمين عند الآخر:
لأن ذلك ضرب من الغيبة, ولأنهما ربما اصطلحا، فأخبر كل واحد منهما بما قلته في صاحبه؛ فتحصل على الضرر من غير ما فائدة، وقديماً قيل:
كم صاحبٍ عاديتَه في صاحبٍ ** فتصالحا وبقيتَ في الأعداء
17- الوضوح ولزوم الصدق والصراحة:
والمقصود بالصراحة ههنا ألا يساير أحداً من الخصمين على باطل، وألا يَعِدَ أحداً منهما وعداً وهو غير قادر على إنفاذه، إلى غير ذلك مما يستلزم الوضوح والصدق.
وليس من شرط ذلك أن يشتد المصلح، أو أن يواجه الخصوم بما يكرهون بحجة أنه صريح، بل يحرص على أن تكون صراحته مغلفة بالأدب واللياقة، وأن تكون كلماته خفيفة الوقع على أسماع المتخاصمين.
كما لا ينافي الصراحةَ والصدق تنميةُ الخير, واستعمال المعاريض, والعبارات الواسعة التي تصلح وتقرب.
18- تذكير الخصوم بالعاقبة:
فيحسن بالمصلح أن يُذكِّر الأطراف المتخاصمة بالعاقبة؛ فيذكرهم بعاقبة الخصومة, وما تجلبه من الشقاق, وتوارث العداوات, واشتغال القلوب, وغفلتها عن مصالحها.
ويذكرهم -كذلك- بالعاقبة الحميدة للصلح في الدنيا والآخرة, ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك كقوله -تعالى-: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [البقرة: 237] وكقوله: (وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ) [آل عمران: 134] وكقوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40].
ويسوق لهم قصصاً لأناس عفوا, فحصل لهم من العز, والخير ما حصل.
وهكذا…
فذلك يبعث النفوس إلى الإقصار عن التمادي في الخصام.
19- إعطاء الوقت والفرصة الكافية:
فإذا قام المصلح بما ينبغي له أن يقوم به فَلْيَدَعْ للزمن دوره, حتى تهدأ النفوس, ويختمر الرأي في الأذهان, ويبدأ الأطراف في المراجعة.
20- الحذر من إلحاق الضرر بأيٍ من الخصوم:
وذلك بالحرص على ألا يترتب على الإصلاح إضرار بأحد الأطراف، كحال من إذا رأى حادثاً مرورياً في طريقٍ ما – بادر إلى حث الطرفين على الصلح.
وربما جامل صاحب الحق، وسكت، وعفا، وتحمل نتيجة الحادث، مع أنه قد يكون قليل ذات اليد، وقد يضطر إلى المسألة؛ ليصلح سيارته.
فلا بد -إذاً- من مراعاة هذا الأمر؛ فلا ضرر ولا ضرار، ولا بد في العفو من الإصلاح لا الإفساد.
وقس على هذه النبذة كثيراً مما قد يقع من الخلاف، والتنازع في الحقوق.
21- ألا تدخل في قضية بشرط النجاح:
بل عليك -أيها المصلح- بذل الوسع، واستنفاذ الطاقة، ثم بعد ذلك وطن نفسك على أن محاولاتك ربما لا تفلح؛ فلا يكبر عليك ذلك، وأعلم بأنك مأجور مثاب، وليس من شرط الإصلاح إدراك النجاح، وليكن شعارك (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود: 88.
المصدر : صيد الفوائد .