الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه المصطفى وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إن التربية بالموقف جانب كبير من جوانب التربية، وغاية في الأهمية، وذلك نظراً لكثرة المواقف التي تحدثُ بين الناس عموماً وبين المربين والمتربين خصوصاً، ونعني بالتربية بالموقف أنه قد يحصل أحياناً واقعةٌ أو موقف بين اثنين أو أكثر، يمكن استثمار هذا الموقف في توجيه تربوي يستفيد منه أحدهما، فيكون تعديلا في سلوك أو بذرة لمشروع تربوي عام أو خاص. وسأذكر في تلك الحلقة عدداً من المواقف في السابق واللاحق مع التعليق اليسير على كل موقف منها لعلها أن تكون دافعاً لنا لاستثمار المواقف التي تحصل لنا مع أولادنا وطلابنا أو غيرهم من فئات المجتمع كله.
النموذج الأول:
ما ورد عند النسائي وغيره، يقول أبو محذورة رضي الله عنه وذلك قبل إسلامه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت عاشر عشرة من أهل مكة نطلبهم فسمعناهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن مثلهم نستهزئ بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد سمعت من هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا، فأذّنّا رجل رجل وكنت آخرهم، فقال حين أذّنت تعال فأجلسني بين يديه، فمسح على ناصيتي وبرّك علي ثلاث مرات، ثم قال اذهب فأذن عند البيت الحرام. قال الواقدي فمكث أبو محذورة حين أسلم يؤذن خمسين سنة.
فهذا الموقف هو واقعة حصلت فاستثمرت فكان من نتاجها أن أبا محذورة رضي الله عنه أسلم ودام على الأذان هذا الوقت الطويل خمسين سنة، إضافة إلى الآثار الإيجابية التي تركها أبو محذورة رضي الله عنه في الأمة خلال حياته، كل هذا الخير العظيم هو باستثمار تلك اللحظات من هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
النموذج الثاني:
ما ورد في صحيح البخاري أن عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه أكل الغداء مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو كانت يدي تطيش في الصحفة، وهذا مخالف لآداب الطعام، فاستثمر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الموقف بتوجيه كريم، حيث قال عليه الصلاة والسلام: “يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك” فصارت تلك الكلمات نبراساً للأمة من بعد عمرو، ولذلك قال عمرو رضي الله عنه فلم تزل هذه طعمتي بعد، فكم من المواقف التي نراها مع أولادنا أو غيرهم في المناسبات لو استثمرت لحصل خير عظيم.
النموذج الثالث:
كان الإمام الذهبي رحمه الله شاباً فكتب شيئا من الكلام، فرآه الإمام البرزاني فقال له خطك يشبه خط المحدثين، يقول الذهبي رحمه الله فوقعت تلك الكلمة في قلبي وأثّرت علي، فحُبب إلي علم الحديث، فكان رحمه الله تعالى من أئمة الحديث وكبارهم بسبب تلك الكلمة، فكم نرى أحياناً ما يعجبنا من تصرفات الآخرين، فلماذا لا نشيد بها ونثني عليهم ونحثهم عليها، فهذا من استثمار المواقف.
النموذج الرابع:
يقول أحد المربين الثقات كان لي صديق أيام الشباب، فصلينا معاً فاقتصر هو على الفرض دون السنة فلم يصلها، فحدثته عن ذلك وذكرت له قول المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ** كنقص القادرين على التمام
فكان يقول بعد كلما هممت بترك السنة تذكرت هذا البيت من الشعر فصليتها، فتأمل كم صلى بعد ذلك من ركعة وكم وجّه من الآخرين، وكم أثّرت في نفسه بسبب استثمار ذلك الموقف اليسير بذلك البيت من الشعر.
النموذج الخامس:
حدثني أحد الثقات يقول كنت جالساً في المسجد بعد الصلاة، فدخل عدد من الشبان ليصلوا بعد الجماعة الأولى، فصلى بهم أحدهم، فكان صوته جميلاً ورائعاً، فلما انتهى من صلاته وانصرفوا دعوته، فهنّأته بصوته وقراءته، وقلت له لم يبق عليك إلا حفظ القرآن فوعدني بذلك، فرأيته بعد عشرة أشهر، فقال أُبشرك أنني حفظت العشرين الأولى من القرآن، فشجعته وهنأته ودعوت له ورفعت همته في إكمال القرآن، فرأيته بعد ستة أشهر فقال أُبشرك أنني ختمت القرآن كله، فتأمل كيف استثمر ذلك المربي هذا الموقف اليسير الذي ربما مر على كثير منا أمثاله وأمثاله، فقد حفظ صاحبنا القرآن، ويُرجى أن يكون قدحفّظ غيره، فهنيئاً لصاحبنا المربي باستثماره ذلك الموقف.
النموذج السادس:
كان أحدهم مدخناً ومنهمكاً فيه، فجاء ذات يوم من عمله في وقت الظهيرة وتناول وجبة الغداء، ثم أخذ قسطاً من الراحة، فلما استيقظ وصلى العصر فإذا هو يدخل يده في جيبه ليخرج تلك السجائر كالمعتاد، فلما أدخل يده لم يجد تلك السجائر، وإنما وجد بدلها كتيباً صغيراً بحجم تلك السجائر وهو كتاب حصن المسلم، فتأثر من ذلك كثيراً، فكان هذا التأثر من أهم الأسباب وأكبرها في تركه للتدخين بإذن الله تعالى، خاصة وأن الذي وضعه هو أحد الصغار منكراً عليه ذلك التدخين.
فهل استثمرنا مع أصحاب الأعمال السيئة كأمثال التدخين مواقفنا معهم، فلربما كان ذلك الاستثمار سبباً في الرجوع إلى الحق.
أيها الكرام هذه نماذج من السابق واللاحق في استثمار المواقف لعلها أن تكون نبراساً ودافعاً لنا في آلية ذلك الاستثمار والاهتمام به.
إن هذا يُحتم علينا الانتباه للمواقف من حولنا مع أولادنا وأقاربنا وجيراننا ومجتمعنا عامة، ومحاولة استثمارها بالتوجيه التربوي ضمن الزمان والمكان المناسبين والاحترام المتبادل، ولا تحتقرن شيئاً منها فربما كان يسيراً في نظرك أخي المربي لكنه كبير في نظر المتربي، وربما كان بذرة لمشروع كبير أو صلاح حال أو تصحيح مفهوم خاطئ، وعلينا نشر تلك الثقافة في مجالسنا وبين أصحابنا فهو جانب كبير من الدعوة وباب كبير من أبواب الخير وصدقة جارية، فاحرص أخي الكريم كثيراً على ذلك وهو سهل يسير لكنه يحتاج إلى نوع من الدربة عليه، فما أحوجنا إلى ذلك وقاية وعلاجاً، وإن كل موقف تستثمره يدفعك ويزيد لك حرصاً على استثمار مواقف أخرى، وذلك لما ترى من النتائج والمخرجات الإيجابية.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وأن يصلحنا ويصلح لنا ويصلح بنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
———————————————————–
بقلم أ. خالد بن علي الجريش