د. مها سليمان يونس.
لاحظ العوام من الناس ومنذ أقدم العصور, بروز حالات الإصابة بالمرض العقلي لدى نفس العائلة وبالأخص الأسر المعهود لها بالزواج من الأقارب وقد تتكرر هذه الحالة لأجيال عدة مما دفع العلماء والباحثين إلى إجراء التجارب العلمية والبحوث الرائدة لتأكيد أو نفي دور العامل الوراثي في الأمراض النفسية
ومع ازدياد سرعة التقدم العلمي وتطور الوسائل البحثية اثر التقدم التكنولوجي العالمي ,ترسخ المفهوم حول هذا بالموضوع وعزز بالنتائج المتأتية من استخدام الطرق الحديثة في البحوث العلمية.
تشتمل عبارة الأمراض النفسية أو العقليةmental disorders على طيف واسع من الإعراض المتباينة في شدتها وتأثيرها الكمي والنوعي على حياة المريض وفعاليته كانسان منتج وفعال في المجتمع
حيث تعود كل مجموعة من الإعراض إلى تصنيف تشخيصي معين يكون مفهوما لدى أطباء النفس والعاملين في حقل الصحة النفسية لكنه يبقى مبهما لدى الغالبية من الناس وتتملكهم مشاعر ومفاهيم مشوشة حول ماهية المرض النفسي وأسبابه لكون الطب النفسي قد ظل محاطا بالأوهام والخرافات التقليدية الشائعة التي يتداولها الناس ويكاد لا يخلو منها أي مجتمع بشري مهما بلغت درجة تمدنه وخضعت الأمراض النفسية لشتى الأفكار الموروثة والتي اثبت الطب الحديث بعدها عن الحقيقة بالأدلة والبراهين ومع هذا استمرت تغلف أذهان الناس إلى يومنا هذا .
في الأمراض الباطنية تكون العلاقة الوراثية ظاهرة للعيان ومباشرة أكثر مما هو عليه الحال في ميدان الأمراض النفسية لكون الأمراض الباطنية تظهر بشكل أعراض جسدية واضحة وتتأكد بطريقة التحاليل المختبرية والصور الإشعاعية كمرض ارتفاع الضغط الشرياني وداء السكري وبعض أمراض الجملة العصبية وغيرها ,
أما في الطب النفسي فيقتضي الأمر قدرا أكبر من الإلمام بتاريخ العائلة المرضي family history بالتفصيل مع الأخذ بأسباب نشوء المرض بالدقة التامة قبل الحكم على التأثير الوراثي وانتفاء المسببات الأخرى للمرض كان تكون عضوية المنشأ كأورام الدماغ أو حصول ضربات على الرأس والحميات التي تصيب أغشية الدماغ meningitis ,encephalitis وتؤدي إلى ظهور أعراض مطابقة لإعراض الأمراض الذهانية ,من هنا يمكننا القول أن البحث عن العلاقة الوراثية يعتمد طريقا أطول وأكثر تعقيدا مما هو الحال في الطب الباطني.
تشكل الأمراض الذهانيةpsychotic disorders المكون الأكبر في تصنيف الأمراض النفسية من حيث الأهمية نظرا لتأثيرها على شخصية وذكاء وتصرفات المريض ولعل أكثرها شيوعا هو مرض الفصام العقلي schizophrenia الذي سنتناوله بشيء من التفصيل لكونه موصوم ضمنيا بمدى التأثير الوراثي وهو التصنيف العلمي لما عرف عند العامة بالجنون العقلي ويسمى في بعض الأدبيات الطبية بسرطان العقل كتعبير عن تأثيره المدمر على المريض ومستقبله الاجتماعي والمهني .
تلعب العوامل الوراثية دورا هاما في تكوين مرض الفصام بصورة خاصة وبقية الأمراض الذهانية بصورة عامة وتكون آلية انتقال المرض هو ما يعرف بالاستعداد الوراثي genetic predisposition والعامل الوراثي هنا لا يكفي لوحده في نشوء المرض إذ قد يظهر المرض لأول مرة في عائلات لم تعرف المرض العقلي في تاريخها والعكس أيضا صحيح وهذا يعني إن العائلة التي يكون احد أفرادها مريضا بالفصام تكتسب الاحتمالية الأكبر لإصابة فرد ثاني من نفس العائلة مقارنة بالعوائل الخالية من الإصابة وقد أشارت الدراسات المتعددة التي أجريت على المرضى الفصاميين وعائلاتهم إلى وجود هذا الاستعداد الوراثي وقد تظهر الإصابة بمرض ذهاني أو عصابي غير الفصام ولذلك أطلق على هذه الظاهرة
ما يسمى ب( الطيف الفصامي ) .
اعتمد الباحثون طريقتين في التوصل إلى هذه الحقائق العلمية :
1- تتبع حالات التوائم المتطابقة identical twins والتي اتضح إن نسبة الإصابة المستقبلية لشقيق التوائم المتطابق المصاب بالفصام تصل إلى 40-50% في حين أن نسبة الإصابة المستقبلية لشقيق التوائم غير المتطابق non identical twin تصل إلى 10% فقط مما يؤكد دور العامل الوراثي في ترسيخ نسبة الإصابة كون التوائم المتطابقين يحملان نفس الجينات الوراثية المتشابهة.
2- تتبع حالات الأطفال المتبنين adopted children من قبل اسر غير أسرهم البيولوجية حيث أوضحت الدراسات أن الطفل القادم من عائلة تحمل تاريخا مرضيا لمرض الفصام ,تكون احتمالية إصابته بنفس المرض اكبر من الطفل المتبنى الأخر والذي لا يحمل تاريخا مرضيا في عائلته الأصلية رغم تشابه ظروف التربية والمحيط في العائلة الجديدة .
3- تبلغ نسبة وقوع مرض الفصام في عامة الناس حوالي 1% في كل المجتمعات والدول بصورة عامة وعند دراسة العائلات المصاب احد إفرادها بمرض الفصام لوحظ ازدياد هذه النسبة إلى 14% إذا كان المريض هو أحد الأبوين و 25% إذا كان كلا الوالدين مصابان بالمرض في حين تنخفض إلى 5-8% لدى إصابة احد الأشقاء مما يوضح أيضا أهمية العامل الوراثي في رفع نسبة الاستعداد للإصابة المستقبلية بنفس المرض.
وهناك الأمراض الذهانية الأخرى والتي لا تقل أهمية عن مرض الفصام وإن كانت أقل شيوعا
وأبرزها هو مرض الهوس الاكتئابي Bi polar disorder أو ما يعرف بالاكتئاب ثنائي القطب الذي يجتاح القدرة العقلية للمريض ويسلب منه الحكمة والتوازن النفسي والعقلي ويكون مصحوبا بتقلبات شديدة للمزاج من أقصى الشعور بالكدر والسوداوية إلى انفلات المرح غير المنضبط واختلال السلوك العقلاني بنتيجة الشعور بالمرح والفخار المتعاظم وهنا يتضح تأثير العامل الوراثي لدى تتبع ومراقبة التاريخ المرضي للأسرة المصاب أحد أفرادها بهذا المرض ..
أسلفنا أعلاه وباختصار شديد ماهية الأمراض الذهانية والتي تشتمل على وجود الأوهام العقلية والهلاوس السمعية غالبا وفقدان مقومات التفكير المنطقي والسليم
ولكن هناك طائفة كبيرة مما يدعى بالأمراض العصابيةneurotic disorders والتي تتصف باحتفاظ المريض بصفاء عقله وقابلية التفكير السليم ولكن تكون شكواه ومعاناته عاطفية وتؤثر على شعوره وتصرفاته من دون المساس بقابليته العقلية وعلى سبيل المثال لا الحصر اضطرابات القلق الحاد والمزمن والرهاب (الفوبيا) والوسواس القهري وحالات الهستيريا ومختلف الأعراض (الرحامية) .
في هذه الطائفة من الأمراض قد تلعب العوامل الوراثية دورا ولكن التركيز يكون أكثر على العوامل الظرفية والمحيطية وأسلوب التربية الذي تلقاه المريض في طفولته أكثر من الاستعداد الوراثي وان كانت بعض الدراسات قد أظهرت تأثيرا للعوامل الوراثية إلا أن هذا التأثير يبقى محدودا ومنوطا بالعوامل المحيطية وظروف الحياة وتجارب الطفولة بشكل أقوى وأكثر وضوحا.
ولابد أن ملاحظة أسلافنا لهذه الظاهرة قد خلقت هذا الاعتقاد الشائع بأهمية الوراثة في بروز الأمراض العقلية بشكل خاص في نفس العائلات ومن هنا نستنبط الحكمة الهادفة إلى وجوب الاقتران بالإغراب لتنشيط النسل ودرء خطر العوامل الوراثية .