تَهجرُه فلا يجد غيرَ التعايش، وتَنهَرُه فلا يقدِر على التهارش، يسعَى في إرضائها إذا غضِبتْ؛ خوفًا على نفسه إذا النجوم تشابكَتْ، فهو إلى سعادتِها بياضَ يومِه يَسْعى، حتى لا يذوق مِن سواد ليلِه لفعا، ولا تلدغه مِن هجرانها أفْعى، مضطرٌّ إليها بضرورته الفِطرية، “منحاش” إليها بدوافعه الرجوليَّة؛ كي لا يتلوَّى في سَريرٍ بارد، ويبيت في أحضان الملحَفة والوسائد.
تَجِده يتلمَّس لها الأعذار، ويَسلك في الصَّفْح والعفو مسلكَ الأخيار، وهو إنما يلتمَّس تلك الأعذارَ لنفسِه، ويسعى في أن يكون يومه خيرًا من أمسِه، يخاف إنْ هو واجهها لتعاقبنَّه، وإن هو أغضبَها لتهجرنَّه، فيصبر على ما كان مِن الممكن تقويمُه من أخْلاقها، ويتهاون فيما كان يبغي ألاَّ يتهاون فيه، ولربما سَكَت عن أمور للشَّرْع فيها مقال، وأعرَض عن مساوئ الخِصَال؛ كلّ ذلك حرصًا منه على السلامة، وطمعًا في أن ينال منها الحَنَانَ والمحبَّة، ولو استمرَّ على تلك الحال، واعتاد السكوتَ على ما يرى ويسمع، فإنَّ ذلك سيُغيِّر في التركيبة الأُسَريَّة، ويجعل المرأة الآمرةَ الناهية، ويجعل الرَّجُل متاعًا من أمتعة البيت، لا سُلطةَ ولا هَيْبة، إلا إنْ سلَّمه الله ووفَّقه، وأعانه على أهله وأصلحَها له، وكانتْ هي امرأةً طيِّعة لَيِّنة، راضية مرضيَّة.
إنَّ حياة الرجل مع امرأةٍ واحدة، ليستْ حياةً متكافئة مع طبائعهما الفسيولوجيَّة، فعلى سبيل المثال لا الحَصْر: أيامُ الحَيْض عند المرأة التي تكون فيها بعيدةً عن فراش الزوجية، فاسدةَ المِزاج، سيِّئةَ الطِّباع، تجعل الزوجَ يُعانِي من انعكاس تلك النفسية عليه، وتغيُّر الأحوال لديه، فلا هي باللِّباس الذي أَلِفه، ولا هي بالمتاع الذي عَرَفه، مهما حاول وابتكر، وأشدُّ مِن ذلك وأخْطَر دخولُه سِرداب الأربعين، الذي يطول في بعضِ الأحيان إلى ثلاثة أشهر، حسبَ الأعراف والعادات!
فتجد الزوجَ خرَج من حِصْن الزوجية الذي قال عنه الرسول – صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -: ((فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفَرْج)) إلى فلاة العزوبية، حيث أصبح معرَّضًا للسِّهام والمنجنيقات، هذه تُخطِئه وهذه تكاد تُصيبه، والشيطان يسابق الزمنَ حتى يكسبَ خروجه من حِصْنه، ويوقعه في شَرَك المعصية – والعياذ بالله – هذا إنْ فرضْنا أنَّ هذا الحصن ما زال حصنًا منيعًا، وإلا فإنه يترهَّلُ في كثيرٍ من الأحيان، ويصبح لا أغضَّ ولا أحْصن، فتزيد معاناةُ هذا المسكين، كلَّما خرج إلى الشارع ورأى مِن خَلْق الله وبديع صُنْعه.
ولا يزعمنَّ زاعمٌ أن هذا ومَن يتحصَّن في أربعة حصون سواءٌ، خصوصًا مَن استجاد حصونَه، وأحسن اختيارها واحدًا واحدًا، فأنَّى يصل إليه إبليسُ وهو في حصونه الأربعة، كلَّما خرَج مِن حِصْن آوَى إلى رُكْنٍ آخرَ شديد، وحِصْن آخرَ منيع؟!
كثيرٌ من الرِّجال لم يصلْ إلى هذه الصراحَةِ مع نفسِه، ولم يعرِفْ خصائصه البشرية، وتركيبته الطِّينية، ولم يتنبَّه لمقاصِد الشَّرْع في إباحة النِّكاح ممَّا طاب مِن النِّساء، حتى إذا لم يستطعِ العدل، وخاف الإضرارَ بهنَّ، فله – والحالة تلك – أن يبقَى بواحدة مع ما ملكَتْ يمينُه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [النساء: 3]، ولم يقل: واحدة؛ لأنَّ العادة والفِطرة أنَّ ما يطيب لنا مِن النساء هو أكثرُ من واحدة ولا بدَّ، وهذا من حِكَم الشَّرْع البليغة في سدِّ مجاري الشيطان ومداخلِ الهوى، فالنساء أولُ فِتنة بني إسرائيل، وأقوى حبائل الشيطان وسِهامِه التي لا تُخطئ، كما جاء في الحديث: ((إنَّ المرأة إذا خَرَجتِ استشرَفَها الشيطان، وقال: أنتَ سهمي الذي إذا رميتُ به لا أُخطئ)).
فهي شباكُه التي لا يَفلِت منها إلاَّ مَن عصم الله؛ لذا فإنَّ وقوف الزوج في هذا البرْزخ بيْن العزوبية والزواج، يجعله في معاناةٍ نفسيَّة، تزيد حِدَّتُها مع تقدُّم الزمن حين تزداد الفوارقُ الفيزيولوجية بيْن الرجل والمرأة شيئًا فشيئًا، حتى إذا ما انقطعتْ عن المرأة عادتُها، وتغيَّرتْ حالتُها، وأصبحتْ تنظر إليه بغير العَيْن التي ينظر هو بها إليها، وأصبح يجد مِن نفسه ما لا تجد هي مِن نفسها، وخالفتِ الطبيعة بينهما اختلافًا شديداً، فبَقِي يطمح فيما لم تعُدْ هي تريده، ويتوق إلى ما لا تتوق إليه، وينظر إلى قِطار التعدُّد قد ابتعدَ عنه في سِكَّة الزمن، والصيف قد ضيع اللَّبن؛ إذ لا حيلةَ له اليومَ بمواجهة العجوز وبَناتها، ولا طاقةَ له بالشابَّة وطلباتها، فيعرف أنَّه أضاع الفرصةَ وقد كانتْ سانحة، وقد كان أحدُ أساتذتي الشيوخ، الذين مرُّوا بهذه التجرِبة، يُحدِّثُني وهو في السبعين، عن أسفِه على ما فَرَّط في أمر الزواج.
أمَّا مَن وقعوا فيما حَرَّم الله، وابتغوا السبيلَ السيِّئ، فهم كثير، وما زِلْنا نراهم في كلِّ طائرة، وفي كل مطار، وفي كلِّ فندق، لم يُخرجْهم من ديارهم ويُقحمهم المخاطر، إلا تلك الحاجةُ التي لم يقضوها في بيوتِهم ومساكنهم، فهَجرُوا مِن أجْلها الأوطان، ورَكِبوا بسببها الأهوال، وصَرَفوا في سبيلها الأموال، وباعوا من أجْلِها الأديان، فصاروا أضحوكةَ كلِّ مَن يراهم، وأمر مِثْل هذا، ودافعٌ يجعل الإنسانَ يُضحِّي كل هذه التضحية، ويغامر كلَّ هذه المغامرة، لهو أمرٌ لا ينبغي أن نتهاونَ فيه، أو نُقلِّل من خطرِه، وهو ما عالَجَه القرآن في ثلاث كلمات : ﴿ مَثْنَى وُثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾.
وهذا جزاءُ مَن ترَك الزواج مخافةَ أمِّ فلان، وقد قال الله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ﴾ [النساء: 3]، فترك التعدُّد لا خشية العدل والظلم والعاقبة والمآل، فهو لم يخطرْ له أمر العدل على بال، ولم يتركِ الزواج من أجْل ذلك الخوف المذكور في القرآن، المحمودِ عندَ خالق الأكوان، إنما استحضر نظرتَها الغاضبة، وجبينَها المكشَّر، وصوتَها المرعب، وتهديدَها الذي يصبُّ الماء في الرُّكَب، وتخويفها إيَّاه بالأهل والأقارب، وتشتيت الأُسْرة وتفريق الأبناء، وتحطيم ما بُنِي، وتهديم ما بَقِي، فوافقتْ من قلبِه إيمانًا ضعيفًا، ومن عقله نظرًا كفيفًا، فظنَّ أنَّ بيدها نفعًا وضرّا، ونسي أنَّ ربه قد أحاط بكلِّ شيء قدرا، فانقاد إليها قسْرا، وعاش في ظل سيطرتها دهرا، فخلاَّه الله وما يخشى، وترَكَه وإياها، فزادته على رهقه رهقًا، وهذا جزاءُ من يخشى غيرَ الله، ومَن خاف من شيء سلَّطه الله عليه؛ ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6].
وأخيرًا:
فلنعلم أنَّ الخوف من الزوجة، وترك الزواج من أجلها، يجعل الرجلَ في معاناةٍ هي لا تحسُّ بها، ولا تُعانيها، فهي بطبعها لا تطمع في غيره، ولا تحتاج إلى رجل سواه، وقد يصل هذا الخوفُ إلى المسِّ بعقيدة التوكُّل لدَى المؤمن، والخوف من الله – عز وجل – وحده، فيصبح خوفُه خوفًا غير حميد، ومنقلبه منقلبًا غيرَ سعيد، والحمدُ لله المجيد، إنه على ما نقول شهيد.
المصدر : شبكة الألوكة .