والقلوب في استجابتها لنداء الرحمن أنواع :
إن هذا النوع من القلوب وإن استثقل الذكرى القولية أو ما شابهها ، فلا ينبغي أن نستبعد حياته من جديد بنوع آخر من التذكير ، التي يتمثل في وقوع المصائب أو حلول الكوارث والحروب ، فقط إنها تحتاج لفتة دعوية أخرى مشحونة بالأمل ،
فليست القلوب سواء ، وليس أعظم من الشرك طغيانًا وفسادًا ، ومع هذا فالله يحكي عن المشركين رجوعهم إليه حينما تحل بهم النوائب ، فاقرأ إن شئت قوله سبحانه : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ، وإنما كان رجوعًا مؤقتًا لفقدان الإيمان في قلوبهم بالكلية قبل البلاء {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } .
نعم لقد جعل الله تعالى الأزمات فرصة لمن حجز نفسه عن سماع الخير أن يعود إليه ويتذكر ويخشى ، يقول سبحانه : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } .
والفرصة في حال البأساء والضراء ليست في حق المقصرين ـ وكلنا مقصر ـ بل إنها فرصة للدعاة أيضًا لينالوا من أجور النصح والتوجيه حينما يقومون بواجبهم تجاه من شط عن نبع الإيمان الصافي ، ليبذلوا كل وسيلة حكيمة لينة لإخوانهم هؤلاء فيمدونهم بأقداح الطهارة والسعادة الإيمانية ، بعدما تجرعوا سموم المعاصي والفواحش ، فيبينون لهم عظمة الله تعالى ، وفضل دينهم وجلالة قدره ، ويرسمون لهم أسهل الطرق للطاعة وتجنب المعصية ، موضحين لهم ثمار ذلك كله في عبارة سهلة ميسرة ، مصحوبة بشفقة ورحمة وحكمة ،
وكلي أمل أنهم سيجدون منهم قلوبًا في مثل هذه الأحوال العصيبة أقرب إلى الإنابة ، وأسرع في الاستجابة ، وليس هذا فحسب ، بل ربما عادوا مع إنابتهم بشوق إلى خدمة دينهم وأمتهم ، حتى ترخص منهم الأنفس ، وتجود منهم الدماء .
ولنا في قصة توبة أبي محجن الثقفي ـ رحمه الله ـ شاهد وعبرة ، فلقد كان أبو محجن الثقفي لا يزال يُجلد بسبب شربه الخمر ، فلما أكثر منه سجنوه وأوثقوه ، فلما كانت معركة القادسية ، فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا في المسلمين ، فأرسل إلى زوجة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: إن أبا محجن يقول لكِ : إن خليتِ سبيله وحملتِه على هذا الفرس ، ودفعتِ إليه سلاحًا ليكونن أول من يرجع إليكِ إلا أن يُقتل ، وأنشأ يقول :
كفى حزنًا أن تلتقي الخيل بالقنا *** وأُترك مشـــــــدودًا عليَّ وَثاقيا
إذا قمت عنَّاني الحـــديد وغُلِّقَت *** مصاريع من دوني تصم المناديا
ولله عــــــهد لا أخـــيس بعهده *** لئن فُرجت أن لا أزور الحوانيا
فحلّت عنه قيوده ، وحُمل على فرس كان في الدار، وأُعطي سلاحًا ، ثم خرج يركض حتى لحق بالمسلمين في المعركة ، فأبلى بلاء لفت أنظار سعد رضي الله عنه فجعل يتعجب ويقول : مَنْ ذاك الفارس ؟ قال : فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى هزمهم الله ،
ورجع أبو محجن وردَّ السلاح وجعل رجليه في القيود كما كان ، فجاء سعد ، فقالت له امرأته : كيف كان قتالكم ؟ فجعل يخبرها ويقول : لقينا ولقينا ، حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق ، لولا أني تركت أبا محجن في القيود لقلت : إنها بعض شمائل أبي محجن ، فقالت : والله إنه لأبو محجن ، كان أمره كذا وكذا ، فقصّت عليه قصته .
فدعا به ، فحلّ قيوده ، وقال له ـ فاتحًا له باب التوبة ـ : لا نجلدك على الخمر أبدًا ، قال أبو محجن : وأنا والله لا أشربها أبدًا !!
وأخيرًا : دعونا نحوَّل أزماتنا اليوم إلى ساحات عمل دعوية جادة ، نؤلف فيها القلوب على الإيمان ، وننادي الأنفس إلى السعادة ، ونوقظ الضمائر على نور الهداية ، ونستثير الهمم لحماية الدين وأهله وأرضه .