عندما كنت أكتب كتاب، كانت تمر بي بين الحين والآخر فترات من التراخي والتسويف مما يعطل العمل ويؤخر إنجازه. “سوف أنتظر حتى تأتيني أفكار جديدة”، “هل هذا العمل مفيد؟!”، “هل سينجح؟!!” وهكذا تراودني أفكار عديدة لا تؤدي إلا إلى نتيجة واحدة.. المزيد من التأخير. ومع مقابلاتي مع الناس شعرت بأنّ هذه المشكلة عامة تتراوح حدتها بين شخص وآخر وبين وقت لآخر. فكم من الأفكار الذكية التي بزغت في عقولنا، وكم من المشاريع الواعدة والمبشرة التي خططنا لها، رمى بها التسويف والتردد إلى مجاهل الإهمال والتناسي، وفقدنا بسبب ذلك فرصاً كثيرة. تعالوا خلال السطور القليلة التالية نستكشف من أين يأتي التسويف؟
ما هو التسويف؟
التسويف هو: اتخاذ قرار بتأخير عمل ما أو بالبت في أمر ما بشكل متعمد. عندما نلجأ للتسويف فإننا إما أن نُرجئ العمل إلى وقت ما في المستقبل: “سأزور صديقي يوماً ما”، أو أن يحين الوقت المحدد مسبقاً دون إنجاز العمل: “كنت سأبدأ بالكتابة هذا اليوم لولا أن أصدقائي أغروني بالخروج، فخرجت معهم وضاع الوقت”. وبمعنى آخر هو تأخير عمل ما كنت ترى أنّ إنجازه كان ضرورياً.
الدوافع الخفية للتسويف:
على الرغم من أنّ تأخير بعض الأعمال لتكوين صورة أفضل عنها أو جمع معلومات أكثر أمر ممدوح، لكني متأكد أنك تتذكر العديد من الأعمال أو القرارات التي عملت على تأخيرها دون سبب مقنع. والواقع أنّ قيامنا بهذا الفعل يخفي خلفه أسباباً عديدة سيساعدك التعرف عليها في كشفها ومقاومتها في المرّة القادمة عندما تقع في حبال التسويف:
أوّلاً: القلق:
حيث التسويف وتأخير العمل سيحميك من القلق حول ظهور العمل بصورة غير مرضية. وبالتالي شعورك بالفشل وضعف الثقة بالنفس. وهذا ما حصل مع المهندس (سعد) حين قرر تأخير تقديم خطة عمل مشروعه الجديد دون عذر واضح مما أغضب مديره. وكان الدافع الخفي وراء ذلك هو قلقه العميق من رفض الخطة ومن ثمّ سيثبت: “أنا لست كفئا لهذه الوظيفة”. وهذا أيضاً ما يتكرر حدوثه لدى بعض الطلاب حيث يتأخرون في البت في إعداد بحث التخرج مثلاً، ويقضون أوقاتهم عبثاً هنا وهناك لتلافي البداية التي قد تكشف عن ضعف فكرة المشروع أو قلة أهميته.
ثانياً: ضعف تحمل الإحباط:
يمتلك العديد من الناس عتبة منخفضة لتحمل أي شعور سلبي أو إحباط أو ملل أو أي عقبة أثناء قيامهم بعمل ما. وبالتالي يستسلمون فوراً ويلجئون للتسويف والمماطلة. تكمن الفكرة الجوهرية لضعف تحمل الإحباط في عدم القدرة على تحمل ألم آني أو فشل أو صعوبات في سبيل مكسب مستقبلي. فالمدخن الذي يقرر ترك التدخين يشعر في الأيّام الأولى ببعض التغيرات المزعجة مثل القلق، والتوتر والغضب السريع (أعراض انسحابية) وحينها يقرر مباشرة العودة إلى التدخين، وتأجيل فكرة الإقلاع إلى أجل غير مسمى.
والمشكلة أننا نشعر بالراحة والسعادة بسبب تأخير أي عمل يسبب لنا إزعاجاً أو مضايقة، بينما تتضخم المشكلة من حيث لا نشعر.
ثالثاً: إبداء الاحتجاج والغضب:
قد نلجأ للتسويف وتأخير إنجاز عمل مهم كتعبير عن غضبنا تجاه شخص آخر. فقد تلح عليك زوجتك بالقيام ببعض الإصلاحات في المنزل مما يشعرك بالغضب والتضايق وتقرر أن تؤجلها: “حتى ترى مع من تتكلم!”. وبالمثل يطلب منك رئيسك في العمل القيام بمهمة إضافية فتثور ثائرتك: “هل يظن أني خادم لديه. سوف أريه!”. فتقرر تأجيل العمل مما يغضب رئيسك ويقدم عنك تقريراً سيئاً يحرمك من الترقية في السنة القادمة.
التسويف هو القبر الذي نواري فيه أحلامنا وطموحاتنا والفرص النادرة في حياتنا.. |
عاتب الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين الذين يسوّفون في أمر التوبة والإنابة إليه. وقد خاطبهم بأجمل عبارة وهو يذكرهم أنّ الوقت حان لاتخاذ قرار العودة والخشوع بين يديه. قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (الحديد/ 16). |
مبررات شائعة للتسويف:
يلجأ المسوّفون إلى ابتكار العديد من المبررات (التي يعتقدون أنها منطقية) للقيام بتأجيل عمل ما أو اتخاذ قرار حول مسألة مهمة. سنحاول هنا أن نستكشف هذه المبررات الخادعة ونتبعها بذكر بعض الأفكار العملية التي ستساعدنا بمشيئة الله على التخلص من هذه العادة السيئة.
كثيراً ما نؤخر الابتداء بمشروع ما بحجة أننا نهيئ (مزاجنا) للدخول في جوّ العمل. حيث نجلس على الكرسي لفترة طويلة، ونقضي الوقت في الشرود، ومحاكاة النفس، وهكذا يمضي الوقت دون أي إنجاز. ومن ذلك أيضاً الانشغال بالقيام بأمور تحضيرية للعمل – بعد أن تقنع نفسك – أنّها مهمة مثل تنظيف الطاولة وتجهيز الأوراق وغيرها من الأعمال التي لا تعني أبداً أنك بدأت في عملك.
الوقوف على عتبة العمل سوف لن يساعدك على إتمامه، بل الولوج فيه ومقارعته هو ما سيمنحك القدرة والهمة والحماس. |
حيث يعتقد بعض المسوّفين أنّ أفضل أدائهم يكون أثناء شعورهم بالضغط النفسي في اللحظات الأخيرة. ولك أن تقارن بين عملين أنجزت أحدهما على عجل في اللحظات الأخيرة، وآخر قمت به مبكراً وسترى قدر الإتقان الذي يمنحه الإنجاز على مهمل.
العمل في اللحظات الأخيرة يحرمك من مراجعته، وتقليب النظر فيه، ووضعه في صورته النهائية، والاستعانة ببعض المواد الإضافية أو الزيادات المفيدة ليظهر العمل على أفضل وجه.
والفكرة المخادعة هنا أننا في اللحظات الأخيرة نجد أنفسنا مضطرين للعمل (حافز قوي للعمل) ولذا نعمل بجد ونرى ثمرة ذلك أمامنا. ولذا نعتقد أنّ ضغط اللحظات العصيبة هو السبب في الإنجاز. والحقيقة أننا لو امتلكنا حافزاً قوياً ومثيراً لإنجاز العمل في وقت مبكر فسنجد نتائج باهرة تفوق في جودتها نتائج العمل في اللحظات الأخيرة.
ومن المبررات الشائعة للتسويف هو انتظار لحظات الإلهام التي تثير مكامن الإبداع والتحفيز لدينا للقيام بعمل متميز. وهذه الفكرة نشأت على أساس أنّ الإبداع يتنزل على المبدعين كالوحي في لحظات من التجلي. وكأنّ الشعراء هم أوّل من أسسوا لهذه الفكرة!. وعلى كلِّ حال فقد أثبتت هذه الفكرة خطأها، فالأفكار الملهمة والأعمال العظيمة لم تكن حصيلة التسويف والانتظار وتجنب خوض أعماق القضايا والمشكلات. بل كانت نتيجة للعمل الدؤوب والمستمر في كلِّ الحالات النفسية المتباينة التي نمر بها بين حين وآخر.
التحفيز والإلهام لا يأتي أوّلاً.. بل إنّ الأعمال المنجزة هي التي تأتي أوّلاً. يجب أن تشحن طاقتك لابتداء العمل سواءً كنت تشعر بالإلهام أو لا تشعر. وحالما تبدأ بالخطوات الأولى في طريق الإنجاز فهذا كفيل بأن يُشعل فيك فتيل الهمة والإبداع والعمل أكثر وأكثر. |
لعلك صادفت هذا الصنف من الناس الذي يكون تسويف العمل لديه وتأخيره نتيجة أمور ثانوية يعطيها أهمية مبالغ بها، وبالتالي تشتته عن ابتداء العمل أو مواصلته. فبينما هو مقبل على عمله يسمع رنين الهاتف: “لعله أمر هام قد تكون زوجتي في مشكلة”، ومن ثمّ تطرأ على ذهنه: “لابدّ أن أعد قائمة التسوق”، “سأعد كأسا من القهوة حتى أركز أكثر” وهكذا سلسلة من الأعمال الهامشية التي لا تغني ولا تسمن من جوع حتى يضيع الوقت دون فائدة تذكر.
وقد يختبئ التسويف خلف القيام بأعمال أقل ضرورة وأهمية بشكل يطغى على الأعمال الضرورية. فبدل الجلوس للانتهاء من مشروع هام ترانا ننشغل: (لابدّ أن أشاهد نشرة الأخبار)، صديقي فلان لم أره منذ فترة طويلة، ترى ما هي أخباره..) وهكذا مشتتات قد يكون لها أهمية – وهنا الفخ – لكنها بشكل واضح أقل أهمية من إنجاز العمل الذي بين يديك.
إذا أردت أن تحارب الخوف.. أفعل. وإذا أردت أن تزيده.. انتظر، سوّف، أجّل. |
عندما تتخذ قراراً بتأجيل العمل إلى الغد فستشعر بالارتياح وكأنّ العمل قد تم إنجازه!!. والمشكلة أنّ الغد لدى المسوفين لا يعني بالضرورة اليوم التالي، بل يشير إلى نقطة عائمة في المستقبل. كما يُذكر عن أحد الحلاقين الذين كتب على باب محله (الحلاقة غداً مجاناً!!). وما ينصح به الكتّاب هو الانتباه إلى الدافع الحقيقي وراء تأجيلك للبت في أمر ما أو مشروع معيّن. وكما ذكرت سابقاً فإنّ الخوف من الفشل هو دافع رئيسي لسعيك لتأجيل مواجهة مشكلة ما أو قد يكون بسبب شعورك بالإحباط نتيجة عائق أو ملل أو غير ذلك.
من أين أبدأ..
بعد أن تعرّفنا على معظم الأسباب والدوافع الخفية للتسويف.. دعونا نتذاكر في أفكار تساعدنا على التخلص من التسويف (قد تجد بعض الأفكار التي ذكرت هنا قد كُررت في مكان آخر من هذا الكتاب، وذلك لأهميتها وحاجتنا إلى أن تبقى حاضرة في أذهاننا طوال الوقت).
– لابدّ أن نبدأ بامتلاك الوعي الكافي للتعرف على الدافع الخفي وراء كلّ محاولة لتأجيل العمل الذي بين أيدينا.. هل هذا التأجيل بسبب خوفي من فشله، أو تهرباً من مواجهة مشكلة ما، أو أنّه استسلام مبكر أمام تحدي أو عائق أو أمر محبط.
– الأمر الذي يحدد قدرتنا على المواصلة في العمل دون تسويف هو مقدار الحماس الذي نمتلكه لأداء العمل، ومقدار المتعة التي نجدها فيه، أو بما يعدنا من نتيجة سارة عند الانتهاء منه. وكما قال أحدهم: عندما تكون الكتابة تسبب ألماً في الرقبة، ومشاهدة التلفاز تمنحنا المتعة والترفيه فليس من العسير أن نستنتج أننا سنؤجل الكتابة ونشاهد التلفاز. والحل هنا هو شحن ذواتنا بالمتعة والحماس عندما نقبل على الكتابة ونتأمل لذتها الحالية أو شعورنا الجميل عند الانتهاء من إنجازها.
– قم بتقسيم العمل إلى خطوات مبسطة وعملية.. وتابع تقدمك عبر أدائك لهذه الأعمال الصغيرة. وليكن شعارك (دعني أرى). ولذلك أهمية كبيرة في مواصلة العمل. فلو قلت لنفسك أني سأحفظ كتاب الله فستقف مذهولاً أمام هذا العمل الضخم الذي أنت بصدده وستسوّف فيه كثيراً. لكن عندما تنظر إلى عمل اليوم بأن تحفظ فقط نصف صفحة من القرآن، فستجد أنّه أمر يسير يمكن القيام به.
القيام بعمل اليوم يمنحك رضا اليوم وفرص الغد.. |
والآن حان وقت العمل، اخط الخطوة الأولى.. ابدأ وستندهش من النتائج التي ستحققها، وتذكّر أنّ أفضل وسيلة لتلافي الفشل والإحباط هو القعود مكتوف الأيدي دون عمل!.. من يعمل لابدّ أن يخطئ، ولكننا نتعلم من الفشل أحياناً أكثر من النجاح.►
المصدر: كتاب القرار في يديك