همسة في أذن معلم.
د. فيصل بن سعود الحليبي.
من الذي تنشأ على كلماته الأجيال ؟ ومن الذي ترقى على أكتافه الحضارات ؟ ومن الذي تصلح بتوجيهه المجتمعات ؟
وعلى ثقافته تنهض الصناعات والتجارات ؟ ومن الذي تنقاد له أنفس الطلبة كل صباح زرافات ووحدانا ؟
من فتيان وفتيات ، ينهلون من علمه، ويتمثلون توجيهه ، إنه عصب النجاح الحقيقي ، وسر العطاء للأمم، فهنيئًا للمعلم كل هذا وأكثر من هذا .
وهل أكرم من أن يخصه الله بفضل الخشية منه فيقول: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }
فهل أدرك المعلم الحبيب كم ينتظر المجتمع نتاجه، وهل شعر بثقل المسؤولية الملقاة على كاهله، وهل وقف مع نفسه وقفة المحاسبة في بداية كل عام، بل وبين الفترة والأخرى ..
ماذا قدّم لطلابه، وكيف أعطاهم، وماذا منحهم من تجربته وكريم سجاياه ؟
فيا أيها المعلمون الأكارم .. أنادي نفسي وأناديكم لأننا في حقل واحد : هاهو ذا المجتمع يلقي بفلذات كبده بين أيديكم الكريمة، ويؤمل فيكم الأمل الكبير، فماذا أنتم صانعون ؟
إنه مع جهودكم المباركة والمضاعفة التي تبذلونها، لن تستطيعوا أن تصلوا إلى النجاح في أداء مهمتكم إلا بعد أن تحبوها وتقدموا عليها بكل شوق وشغف ونشاط،
ثم إن الطالب قد جعلك في نفسه محل الاقتداء ، فحذار أن تكون صاحب شخصية مزدوجة ، حديثك في جهة ، وتطبيقك له في جهة أخرى !!
فإننا لا نريد أجيالاً تتعلم ولا تطبق ، وتقول ولا تفعل ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } ،
فماذا تعتقد أن يقول تلميذك في نفسه حينما يسمعك تسب أو تشتم ؟
وما عساه أن يقول عنك بين والديه وأصحابه حينما يرى أثر الدخان في جيبك أو شفتيك أو رائحة ثيابك ؟!
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى
كيما يصح به وأنت سقيم
فابدأ بنفسك وانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدي
بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
فلا تستغل قوتك وسلطتك في البطش به إذا هو أخطأ ، أو إهانته في كل الأحوال ولو قصّر ، أو التشفي منه والانتقام حينما تزل به القدم ، فما أتى إليك إلا لقصور في علمه يريد منك زيادته ، وضعف في إدراكه للحياة يبتغي تجربتك فيها ، أو مثل هذا يستحق منك أن تقلل من شأن إنسانيته بالضرب المبرح أو الاستهزاء والسخرية !!
إن هذا التلميذ إذا أمدّ الله في عمرك وعمره يومًا ما ستسمع عنه بأن غدا زميلاً لك في المدرسة ، أو ربما مديرًا أو وزيرًا ، وتذكّر معي أن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه ، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة .
فعَنْ مُعَاوِيَةَ ابْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ : بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ [ وهم في الصلاة ] فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ ، فَقُلْتُ : وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي ، قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ) رواه مسلم .
وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم في وصفه نفسه بقوله : ( إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا ) رواه مسلم .
أيها المعلم :
ألا تعجب معي ممن يصطحبهم الشعور بالتعالي على الطلبة في كل ساعات تدريسهم ، فهو ينظر إليهم من برج عاجي ، مقطب الجبين ، يستخدم ألفاظ الجمع عن نفسه ، ويترفع عن مصافحة تلاميذه أو الابتسامة في وجوههم ، وقاعدته هي :
العين الحمراء .. والحمراء فقط ، وهكذا حتى تتسع الفجوة بينهم وبينه ، لتصبح دقائق مادته على أنفسهم كأثقل ما تكون ، ونفسه عليهم أبشع ما تكون ،
ومن أشد ما ينبغي التنبيه إليه هو أن نحذر من الظلم بكل أنواعه ولو مع من نختلف معهم في الفكر والمعتقد ، سواء في التعامل، أو في الدرجات، أو في الخلق ،
فإن الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }، ويقول النبي صلى الله عليه وسل – فمِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ – : ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا ) رواه مسلم .
بل إن العدل يعطي انطباعًا جميلاً عن نهج الدين وخلق المرسلين العادلين .
وأوصي نفسي وأوصيكم بجميل التعامل مع أولياء أمور الطلاب، وتحمل اختلاف أطباعهم ومشاربهم ، وعليكم بالأنس بزملائكم في هذه المهمة العظيمة من إداريين ومعلمين ، ولتكونوا معهم في تناصح مستمر لأداء هذه الأمانة كما ينبغي ،
واحذروا لغو الكلام في وقت الفراغ ، وابتروا جلستكم مع من ترونه يشغل لسانه بالغيبة أو السخرية بعد إسداء النصح إليه ، ولا يعني هذا أن تكونوا ثقلاء على زملائكم ، بل إن الإنسان بحاجة إلى الراحة التي تتخللها الابتسامة والمرح لتعطيه دفعة إلى العودة بكل نشاط وحيوية .
وما أجمل بعد هذا أن تذوقوا حلاوة الإخلاص والإتقان في التعليم ، فإن ما تقومون به عبادة ، والله يقول : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . وفقنا الله جميعًا لما يحبه ويرضاه ، وأعاننا على أداء مهمتنا على الوجه الذي يرضيه عنا ، إنه جواد كريم .